أغاني "البمبوطية": بحرية يا ريس بحرية

أغاني "البمبوطية": بحرية يا ريس بحرية

08 يونيو 2015
حركة السفن التجارية في السويس (Getty)
+ الخط -
تبدأ حكاية "البمبوطية" مع افتتاح قناة السويس سنة 1869، حين ابتكر الباحثون، عن الرزق، وسائلهم التلقائية في تجارة ترانزيت بسيطة مع السفن الراسية بالقرب من الميناء، إلى حين تأخذ دورها للدخول إلى القناة من البحر المتوسط وعبورها إلى وجهتها عبر البحر الأحمر. بدأت التجارة بمجموعة من الشباب يحملون بضائعهم على قوارب صغيرة يسمونها "فلوكة"، تطورت فيما بعد إلى لانشات، يتجهون فيها إلى السفن الأجنبية، يبيعونها ما يحتاجه ركابها من مياه وطعام وفواكه وبضائع وهدايا وملابس وحتى الصحف والمجلات؛ فانتعشت حياتهم واستقرت زمناً طويلاً.
تلك الحركة التجارية العفوية كانت بمثابة استراحة تنتظرها السفن، فأطلقوا بعفوية على من يركب تلك القوارب "man boat" فحرفها البورسعيدي القديم، الذي لم يحظ بتعليم جيد إلى "بَمبوطي"، فصارت "البمبوطية" اسم علم على أقدم مهنة في بورسعيد، ثم مدن القناة جميعاً، بل تم تصدير هذه المهنة، لاحقاً، إلى جميع الموانئ المصرية العامرة، كالإسكندرية ودمياط وغيرهما.
لم تكن السفينة ترسو في الميناء أكثر من ثلاث ساعات، وبعض السفن كانت تسمح لركابها بالنزول إلى بورسعيد للتجول والشراء في تلك الفترة الوجيزة، لذلك كان بعض البمبوطية يستقبلونهم على رصيف الميناء، حيث يفترشون الأرض ببضائعهم المتنوعة والمغرية، مستفيدين من خبرتهم في إقناع الزبائن بضيق الوقت، وضرورة انتهاز الفرص الشرائية لعدم توافر تلك السلع في وقت آخر طوال الرحلة.
معظم السفن كانت لا تسمح بذلك، خصوصاً التجارية منها؛ فينتقل (البمبوطي) في قاربه الصغير، وهو محمل بالعديد من البضائع، ويصل إلى سلم السفينة، فيحمل حقيبة جلدية على كتفه، ثم يصعد بطريقة تشبه القفز لاستغلال الوقت الوجيز، فينتقل من زبون إلى آخر بلكنته المميزة، حيث استطاع أن يلتقط بعض الألفاظ والعبارات والجمل الأجنبية من لغات متعددة ليتفاهم مع الأجناس المختلفة. فإذا فرغت الحقيبة عاد إلى قاربه ليتناول مجموعة جديدة من البضائع، إلى أن ينتهي من عمله، ثم يغادر مرة أخرى إلى الشاطئ انتظاراً لسفينة أخرى.
لم تكن النقود هي كل ما يحصل عليه البمبوطي من الأجانب العالقين فوق سفنهم؛ فقد كانوا يحصلون منهم أحياناً، عن طريق المقايضة، على الهدايا المختلفة والملابس أو الأجهزة الكهربائية، وهي تمثل بداية تجارة جديدة؛ حيث يعاد بيعها داخل مدينة بورسعيد في المنطقة الحرة.

إقرأ أيضاً: الطنبورة: "صحبجية" الغناء الشعبي


منذ بدايات المهنة؛ وخوفاً من الفوضى التي كانت تحدث من تدافعهم نحو السفن؛ شكل البمبوطية ما يشبه الهيئة، فكان لهم دائماً رئيس، واحترموا قواعد عرفية كانت بمثابة اللوائح التنظيمية التي لا يخرج عنها العاملون في أي مهنة، حيث أفادت كلّ بمبوطي بأن يقوم برحلته التجارية للسفينة دون الإضرار بزملائه، والجور على حقوقهم في العمل أيضاً.
مع مرور الزمن صارت مهنة رسمية تعترف بها الدولة، ولها نقابة عمالية. وتتفرع الوظائف فيها إلى ثماني مهن رئيسية، هي: بمبوطية ومساعدو بمبوطية، مخلفات بحرية، سائقو لانشات، مخلفات سفن، تموين سفن، شيب شندري، مهن بحرية، شيالون. فضلا عن بعض المهن الإضافية الأخرى، كالحلاقين والخياطين ومصلحي الأحذية والمصورين.
ولأنها كانت تدرّ ربحاً وفيراً؛ فقد أصبحت المهنة مغلقة على أصحابها، توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد. وكثير من أبناء البمبوطية الذين حصلوا على تعليم جامعي تخلوا في فترات الرواج التجاري عن مؤهلاتهم الجامعية، واختاروا مهنة آبائهم المربحة. يقول أحدهم: كان البمبوطي رمزاً للأناقة والوجاهة، وكان أقصى أمل الفتيات أن تتزوج بمبوطياً. فهو الوحيد الذي يمكنه أن يوفر لبيته وسائل الرفاهية، فضلاً عن جميع احتياجاته الأساسية.
مرت البمبوطية بفترات انتكاسة كبيرة أثناء الحروب، ففي أيام العدوان الثلاثي سنة 1956 توقفت الملاحة، فتعطلت القوارب أياماً، ثم كان العدوان الإسرائيلي على سيناء، فتوقفت الملاحة نهائياً مدة ثماني سنوات وهي أكبر انتكاسة مرّت بأرباب المهنة، كما أصبحوا يشتكون، الآن ومنذ ثورة يناير، من الإجراءات الأمنية التي تمنع قواربهم من الاقتراب من السفن بحجة الخوف من أعمال التخريب والإرهاب، وهو ما يدفعهم إلى تقديم العديد من الشكاوى لحل أزمتهم وتدهور أحوالهم المعيشية.
حكايات البمبوطية وطبيعتهم، تحكيها أغنياتهم الشعبية المميزة التي ترتبط بـ "السمسمية" وهي آلة موسيقية شعبية، ذات خمسة أوتار عبارة عن أسلاك من الصلب الرفيع تشد بشكل قوي على صندوق خشبى، ويتم العزف بالضرب عليها، ومن أغانيهم الشهيرة:

أنا بورسعيدى وبمبوطي
وببيع بضايع أسيوطي
وبحب أهل القابوطي
أنا بورسعيدى وبمبوطي
بحرية يا ريس بحرية
كسيبة وأجدع رجولية
وحياتنا تمام زى السمكة
ما نطقش نعيش بره الميه.

حركات البمبوطي الخفيفة أثناء عمله وقفزه بين القارب والسفينة صعوداً وهبوطاً، تكون أشبه بالرقص، كما أنهم كانوا يتغنون في فترات الراحة بين وصول سفينة وأخرى، ومن أشهر كلمات أغانيهم الراقصة:

إحنا البمبوطية ولا لنا مثال
تجار بحرية نعمل فى القنال
إحنا البمبوطية إحنا
إحنا ولاد الميه

ومن أقدم الفرق الشعبية كانت فرقة "رضا للفنون الشعبية" التي قدمت عرضاً مميزاً في أواخر الخمسينيات. يحكي العرض قصة مجموعة بمبوطية بزيهم المميز بطاقية الصيادين والصديري على رصيف الميناء بلا عمل لعدم وجود سفن عابرة، فيتسلون بالعزف بالسمسمية والغناء والرقص، ثم يبدأون في لعبة (ملك وكتابة)، ثم يتعاركون أثناء اللعب، لكن فجأة يسمعون صافرة سفينة قادمة، فيتوقفون عن العراك، ويهرولون إلى السفينة عبر قواربهم، ليبدأوا أعمالهم وهم يغنون:

فى الألف دا مش ممكن
يمكن يصادف يمكن
قبطان طالع يتمشى
عينه على طرف الممشي

ولا تزال تلك الأغاني تقدم في الاحتفالات والأفراح الشعبية، ويشتهر في بورسعيد بعض الفنانين المميزين في هذا المجال مثل يحيى محمد، ويحيى مولر، وزكي سالم، وعادل عبد الرحيم، وإبراهيم خليل، وأحمد شحتة، وعادل كروان، ومحمد حجازي. وكثير منهم ليست له تسجيلات صوتية تحفظ تراثهم الفني.

دلالات

المساهمون