أطلالُ دمية

05 نوفمبر 2015
هذه هي الحرب (Getty)
+ الخط -
منذ أعوامٍ خمسة مضت، وعقارب الساعة تدور بعكس اتجاهها، ربما هنا فقط. 
كم فقدنا أشخاصاً لم نعتقد بفقدهم! كم قد رثينا شباباً خُطِفوا؛ وهم للتوّ قد تفتقت ورودهم! أصبحنا أشلاء شعبٍ قد تناثر في كل بلدٍ.


هذه هي الحرب لا تلد إلا آهاتٍ وويلاتٍ، وأنّاتِ صدرٍ معلنةٍ في الصدر فقط، ليس لقداساتها، بل لشدّة ألمها؛ فهي إنْ خرجت فستخرج الروح معها حتماً.

لا يسري قانون الحرب على شيئين؛ الأطفال والحب. الأطفال، هم والحياة، قصة عشق لا تنتهي. يلهون ويضحكون وإنْ كان الجميع حولهم يبكي، هم لا يدركون أنهم أمام محطة قطار أُوقِفت خطاه، واحترقت عرباته، ولم يبقَ شيءٌ فيها للمستقبل (الحياة).

ألعابُهم، وإنْ صارت تحت ركام البيوت، إلّا أنها لم تمت تحت ركام ذاكرتهم. قد أصبحت أدواتُ الحرب ألعابَهم، لا يهمهم استعمالها. ما يهمهم شيءٌ يلعبون به. ابن عمي الذي لم يبلغ ربيعه الرابع نظر مستغرباً إلى أمه عندما خافت من صوت قذيفة قريبة، قال لها: "أنا مو خايف من القذيفة. أنتي ليش خايفة".

كلمة أصبحت معتادة لدى أطفالنا. هنا أطفال قد أصبحت أصوات القذائف طقساً معتاداً عندهم، هنا أطفال حولوا الحرب إلى ملهى، هنا طفل يداعب الليل بقذيفةٍ لم تنفجر، وآخرُ يروي للبحر قصة صاروخٍ أعادَ بيتَه إلى موادّه الأوليّة بعد أنْ سقط فيه، وأحرق جميع ألعابه التي تعوّدَ أن ينِيمها في فراشه ويغطيَها بنفس غطائه كي لا تُحسَّ بالبرد فاضطر إلى تحويل أجزاء ذاك الصاروخ إلى لعبةٍ كي يلهو بها.

سألتُها عندما سمعتُ صوتَ قذيفةٍ مرةً: "كأن في قصف" أجابتْ: "ليس هناك أيُّ شيءٍ غيرُك. أنت فقط موجود". حتى وإنْ دمروا البيوت والأفراح لن يدمروه: (الحب).
مع عينيك يدق المستحيلُ ناقوسَ الحضور، ويتحول الحلم إلى حقيقةٍ ويرقص الواقع مع تلافيف حكايةٍ روتها جدةٌ عجوز لأطفالِها اليتامى في الماضي؛ أطفالِها الذين قضت الحرب على آبائهم، لكنهم مازالوا أطفالاً يُنسيهمُ المرحُ كلَّ شيءٍ حتى انفسَهم. صحيحٌ أنهم بين الحين والآخر يذكرونهم؛ لكنهم سرعان ما ينسون لغةَ الفقْدِ، ويعودون إلى ألعابهم؛ لم يدركوا معنى اليتم. أحسوا بالفقد ولم يتعلموا معناه.

قال لي أبي عندما أسررتُ له أني أريد السفر: "الحياة مغامرة". وأدار وجهه يستشرفَ كيف سيكون حالي هناك. عذراً أبي، لن أسافر. لن أسافرَ لأني لا أملك المال - وهو يدري - كي أبحر محاولاً الموت والغرق. لا أملك مالاً يوصلني إلى منتصف الطريق؛ فكيف لي أن أركبَ البحرَ محاولاً الغرقَ، وإنُ نجوتُ سأروي ضفته الأخرى بدمعي الذي سيهطل رُغماً عنّي.
سلوى التي ستقدم امتحان الشهادة الثانوية بعد أشهرٍ قليلةٍ عندما كنت أسألها: "هل حفظت درسك"؟ ألمحُ دمعةً تبرق من تحت نظارتها وهي تحاول جاهدةً منعها كي لا تسقط. كانت تقول: "لا أستطيع الحفظَ. أبي يريد بنا اللحاقَ بأخي في منفاه. لا أريد أن أسافر يا أستاذ".

ليس أخوكِ فقط بل كلهم أُرغِموا على المنفى، أهمسُ لها بصوت عالٍ أمام زميلاتها: "الحياة هناك رائعة وحلوة. لا بأس عليك". نعم أنا أكذب عليك. أكذب، فالحياة هنا أجمل ولكنني أُجبرت على الكذب مواساةً لكِ.

كلنا أحببناك يا وطن، درب حبنا الذي زرعناه سوياً فأنبت رصاصاً وألغاماً. لم يعد ذاك الدرب يصلحُ للمسير. علينا الابتعاد، سنختار طريقاً آخرَ لنموت فيه، ولكننا حتى وإنْ متنا فسيبقى هناك، حيث وطني، أطفالٌ يلعبون متناسين الحرب، وحبٌ يُنبِتُ يوماً ما وردَ ياسمينٍ لم يتلطخ بالدم الأحمر، وسوف يبقى الحب والأطفال لا يسري عليهما قانون الحرب؛ وبالنسبة لي: "عيناك أيضاً".

(سورية)
المساهمون