أطفال "غوشيه".. مرضى ممنوعون من العلاج في مصر

19 ابريل 2016
معاناة أسر مرضى غوشيه دفعتهم لمقاضاة الدولة(فرانس برس)
+ الخط -
ترقد الطفلة المصرية، أمل إبراهيم مستجير، (7 سنوات)، داخل منزل الأسرة في مدينة المنصورة شمال القاهرة، مستلقية علي سرير داخل غرفتها التي تملأها بصور كارتونية تؤنس وحشتها في محاولة لتحفيف آلام مرضها الوراثي النادر المسمى "غوشيه"، إذ ينتشر المرض في خلايا جسدها الغض، في الوقت الذي لا تستطيع الأسرة، علاجها بسبب التكاليف الباهظة لعلاج المرض النادر، بينما تمتنع الدولة عن توفيرالعلاجٍ اللازم.

حالة أمل، ليست فردية إذ تمتنع الحكومة المصرية عن توفير علاج لمرضى غوشيه الذين يصل عددهم إلى 154 حالة مسجلة في الجامعات المصرية، وتصل تكلفة علاجهم إلى 231 مليون جنيه (26 مليون دولار أميركي)، في حين تبلغ تكلفة علاج الحالات الجديدة غير المسجلة في الجامعات إلى نحو 125 مليون جنيه (قرابة 15 مليون دولار)، وفق تقرير صادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. يؤكد المركز في تقريره أنه سيقيم جنحة مباشرة ضد وزير الصحة مطالبا بحبسه وعزله من الوظيفه طبقا للماده 123 من قانون العقوبات المصري، حال استمرار رفض وزارته، تطبيق الأحكام الصادرة بشأن توفير العلاج للمصابين بالمرض، وهو ما يخالف مواد الدستور.


ما هو داء غوشيه؟

داء غوشيه، أو الشحام الغلوكوزيل سيراميدي، هو مرض وراثي تتراكم فيه المادة الدهنية (الدهون) في الخلايا وأجهزة معينة. يمكن أن تشمل أعراض المرض خللاً في الكبد، واضطرابات الهيكل العظمي وإصابات العظام التي قد تكون مؤلمة، والمضاعفات العصبية الشديدة وتورم الغدد اللمفاوية وانتفاخ البطن، وفقر الدم، بحسب سوسن عيد، أستاذة طب الأطفال بجامعة القاهرة.

تقول الدكتورة سوسن لـ "العربي الجديد": "تظهر أعراض المرض نتيجة فقدان المصابين بالمرض لمستوى كافٍ من إنزيم تفرزه خلايا الجسم، وهو ما يؤدي بدوره إلى تراكم مادة دهنية أو شحمية داخل الجسم، تسبب آلاماً حادة تستمر من فترة الطفولة حتى البلوغ. ولفتت إلى أن عدد المُصابين بهذا المرض حول العالم يصل إلى 10000 شخص، وتغيب الدراسات المُتخصصة للمرض عن مراكز الأبحاث العالمية رغم خطورة أعراضه على من يحملونه".

وتضيف أن الإنزيم الذي يصاب بنقص يُعرف باسم الجلوكوسيريبروسيديز، لافتة إلى أن مسؤولية هذا الإنزيم في الظروف الطبيعية، تتمثل في مساعدة الجسم على تفتيت الجلوكوسيريبروسيد، وهي مادة دهنية تُخزن داخل الجسيم المحلِل في خلايا معينة موضحة أن مرض الجوشيه يمنع هذا الإنزيم من الإفراز فتتراكم الجلوكوسيريبروسيد داخل الجسيم المحلِل ويسبب تضخم الخلية.

ويكشف أحمد يوسف، الباحث بمركز الحق في الدواء، أن الدواء الذي يعالج به المصابون بالمرض أو ما يسمى بـ ''الأنزيم التعويضي''، يعد من أغلى 10 أدوية في العالم، إذ قد تصل تكلفة علاج الحالة الواحدة في السنة الواحدة إلى 200 ألف دولار أميركي، مؤكداً أن الدولة مُلزمة بموجب القانون بعلاج المصابين، والتهرب من تطبيق القانون والتكفل بالقيمة الكاملة للعلاج، يجعل المسؤولين في دائرة التقاضي.

صورة من حكم قضائي يلزم الدولة بعلاج مرضى غوشيه (العربي الجديد)


عدم تنفيذ الأحكام القضائية

يُظهر حكم قضائي تحوز "العربي الجديد" نسخة منه، حصول مختار أحمد عمارة، على حكم قضائي بعلاج ولده القاصر، عبد الحميد المصاب بنفس المرض، وإلزام هيئة التأمين الصحي بصرف الدواء باعتباره حقاً دستورياً، إذ نص الحكم في القضية المقامة برقم 826/37ق، ضد رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمين الصحي، مدير فرع التأمين الصحي بالمنصورة، بقبول الدعوى شكلاً، وبوقف تنفيذ القرار المطعون فيه، مع ما يترتب على ذلك من آثار على النحو المبين من أسباب، وألزمت الجهة الإدارية مصروفات الشق العاجل، وأمرت بتنفيذ الحكم بمسودته وبغير إعلان، وبإحالة الدعوى إلي هيئة مفوضي الدولة لإعداد تقرير بالرأي القانوني بالموضوع، والتي قُضي فيها بإلزام الحكومة بتنفيذ الحكم.

لم يشفع الحُكم القضائي الذي حصل عليه والد عبدالحميد، بعد تأخر حالته المرضية، بحصول ابنه على العلاج، رغم الوعود التي تعهدت بها هيئة التأمين الصحي، كما يقول والده ، متابعا: "طرقنا كافة الأبواب المُمكنة كي نتمكن من علاج عبد الحميد، لكن الأمر انتهي إلى تسويف في الأمر من جانب هيئة التأمين الصحي التي امتنعت عن صرف علاج له رغم صدور حُكم قضائي مُلزم لها بصرفه، متعللة بتكلفته المرتفعة التي تتجاوز الحد المسموح صرفه للمواطنين".

وعلى الرغم من انخفاض الراتب الشهري لوالد عبدالحميد، وهو ما يجعله ضمن من تتكفل الدولة بكافة نفقات علاج جميع الأمراض، وفقا لقانون التأمين الصحي، إلا أنه خاض رحلة معاناة بين الجهات الحكومية في محاولة لتوفير دواء ابنه، يصفها قائلا: "ذهبنا في بداية الأعراض إلى أحد المستشفيات الحكومية الذي تجاهل توضيح أسباب المرض، وقال إن مرض ابني لا يوجد علاج له، ذهبنا إلى عيادة خاصة، كشف الطبيب حقيقة المرض والتكلفة المرتفعة للعلاج، وأوصى بالذهاب للتأمين الصحي لبحث إمكانية صرفه، وكتب لنا دواء مسكناً للتخفيف من آلام عبدالحميد، لكن ثمنه كان فوق طاقتنا".


يستكمل والد عبد الحميد، حديثه بصوت مخنوق وعينين مُبللتين بالدموع :" هيئة التأمين الصحي رفضت صرف الدواء لنا لارتفاع تكلفته المالية وعدم صدور قرار من وزارة الصحة بهذا الأمر، لنبدأ رحلة ما بين الوزارة في القاهرة ومجلس الوزراء يومياً، دون فائدة أو حتى الحصول على رد على مئات الشكاوى التي كُنا نرسلها بشكل يومي، قررنا إقامة دعوى قضائية في المحاكم المختصة بعد إغلاق كافة الأبواب في وجوهنا، وبالفعل صدر أكثر من حُكم قضائي لصالحنا، بإلزام وزارة الصحة بصرف الدواء ومع ذلك لم تنفذ وزارة الصحة الأحكام القضائية".

وتنص المادة (18) من الدستور المصري على أنه: "لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة، وفقًا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية التي تقدم خدماتها للشعب، ودعمها، والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل. وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطي كافة اﻷمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفاءهم منها طبقًا لمعدلات دخولهم".


أسباب التكلفة المرتفعة

توضح سوسن عيد، أستاذة طب الأطفال، أن تكلفة علاج كافة الأمراض الوراثية مرتفعة مادياً، نتيجة خصوصية الدواء في هذه الحالات موضحة أن علاج مرض الجوشيه وهو''الأنزيم التعويضي''، غير مسجل بوزارة الصحة نظرا لتكاليفه الباهظة التي تصل لحوالي 200 ألف دولار، (2 مليون جنيه مصري)، يحتاج المريض للحصول عليه سنويا، حسب ظروف كُل مريض، وتوقيت حصوله على الدواء.

يضيف الباحث أحمد يوسف، أن ميزانية وزارة الصحة تصل إلى 60 مليار جنيه، في حين يتطلب تفعيل نظام التأمين الصحي، وفقا لتقديرات مركز الحق في الدواء، قرابة مائة مليار جنيه، لافتا إلى أنه في حالة زيادة الميزانية، يمكن تغطية علاج كافة الأمراض الوراثية كمرض "الغوشيه" وغيرها وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين، موضحاً أن المسؤولين يمكنهم تدبير المبلغ من خلال رسوم يمكن فرضها على صناعات التبغ والكحول والأسمنت والحديد ورخص المنشآت الطبية.


وزارة الصحة: الملف ضمن أولوياتنا

وفقا لآخر إحصاء صدر عن وزارة الصحة المصرية، فإن عدد الإصابات المتوقعة بمرض غوشيه النادر في العام 2014، هي 54 حالة للنوع الأول، و27 حالة للنوع الثالث، بإجمالي 83 حالة سنويا، بينما لم يصدر بيان في العام الماضي 2015، بعدد الحالات المتوقعة، وفقا للموقع الرسمي للوزارة.

واجهت "العربي الجديد " المُتحدث الرسمي بوزارة الصحة المصرية حُسام عبدالغفار، بكافة الانتهاكات التي وثقتها الجريدة حيال المصابين بالمرض الوراثي من خلال الأحكام القضائية الصادرة بحق هؤلاء المرضى في العلاج وشهادات ذويهم، لم ينفِ عبدالغفار المعاناة مرجعا الأمر إلى عدم تعميم العقار المعالج في عدد من مراكز التأمين الصحي بالمناطق النائية، لكنه عاد وقال :"الوزارة تضع هذا الملف ضمن أولوياتها الفترة المُقبلة و168 حالة من أصل 247 يتلقون العلاج الذي تصل تكلفته لكل مريض إلى 200 ألف دولار أميركي وهناك جهود كي يشمل العلاج المصابيين الباقين".

وأضاف الدكتور عبدالغفار، في تصريحات لـ "للعربي الجديد": "رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب كان قد وافق على إدارج علاج مرض "غوشيه"، على نفقة الدولة، ومن ثم تم اتخاذ إجراءات تسجيل الدواء، وإعفائه من الجمارك، لكن الأمر لم يتم تعميمه، ونعمل على سد احتياجات المرضى الذين نضعهم على أولويات السياسة الصحية للوزارة بشكل دائم.

وتابع عبدالغفار، موافقة مجلس الوزراء على إدارج علاج مرض "غوشيه" على نفقة الدولة، يشمل كذلك الأمراض الشبيهة من نقص إنزيمات أخرى، موضحاً أن مرحلة العلاج ستشمل اتخاذ إجراءات تسجيل الدواء، وإعفائه من الجمارك، والالتزام بتوفيره فى التأمين الصحي للمرضى بكافة المحافظات والقرى الفقيرة في أقرب وقت وهو ما يستبعده أهالي المرضى، ومن بينهم والد الطفل عبد الحميد الذي يتمنى على الوزارة تنفيذ الحكم القضائي بصرف علاج ابنه.