أصبح للمغاربة "بطل قوميّ"

10 نوفمبر 2014

فيضان في سيدي علال التازي شمال الرباط (11يناير/2009/أ.ف.ب)

+ الخط -

يروي السارد، في رواية غابرييل غارسيا ماركيز "حكاية بحار غريق"، حكاية بحار، سيكون الناجي الوحيد من حادث غرق سفينة تجارية، تسيّرها في الخفاء طغمة حاكمة في بوغوتا، ضمن سفن أخرى، تستغل في التهريب. المصادفة وحدها ستقود ماركيز إلى الاهتمام بحكاية هذا البحار، الناجي الوحيد. كان "غابو"، في ذلك الوقت، يعد تقريراً عن حادث غرق السفينة التي لفظ البحر حمولتها على شواطئ بوغوتا: ثلاجات وأجهزة كهربائية ومواد منزلية، في وقت كانت تشن فيه حكومة الجنرالات حرباً شرسة على التهريب، وتعادي في خطاباتها الولايات المتحدة الأميركية.

تساءل ماركيز، الصحافي الشاب والمثير للجدل والملاحق بسبب تحقيقاته، كيف يستقيم ذلك لنظام سياسي يحارب التهريب، بينما يمارسه في الخفاء، وكيف يقطع علاقاته مع أميركا علناً، ويتعامل معها اقتصادياً من تحت الطاولة.

هذه الأسئلة قادته إلى التحقيق في واقعة الغرق، ولأنه لم يكن يملك بين يديه غير الرواية الرسمية، فقد انطلق منها، وسعى إلى ملاحقة البحّار الذي تحول بطلاً قومياً، بعد أن كرّمته الحكومة، وصنعت له تمثالاً وسط العاصمة، لأنه استطاع بـ "بطولة خارقة" أن ينجو عائماً عشرات الكيلومترات على طوف خشبي.

ولأن الحكومة كانت تريد التغطية على حادث غرق السفينة، حتى لا يصبح الأمر فضيحة، كان وجود بحّار على قيد الحياة ناجياً من حادث الغرق محرجاً لها، ولذلك، تحركت بسرعة، وقدمت العلاج له على نفقتها، ومعاشاً دائماً أيضاً، وفتحت وسائل الإعلام له ليتحدث عن بطولته وكرم الدولة.

اكتشف ماركيز، بحس الصحافي والأديب، أن حلقةً ما ناقصة في الحكاية، هكذا سعى إلى لقاء "البطل القومي"، واستطاع أن يقنعه بأهمية أن يقول الحقيقة للناس، وهذا ما كان، فروى الحكاية من البداية. يكتب ماركيز، أنه بعد سنوات من نشر تحقيقه، سيلتقي البحار الذي كان بطلاً قومياً يتزاحم الناس على أخذ تذكار معه، وقد أصبح مشرداً يطوف شوارع بوغوتا طالباً الصدقات، بعد أن جردته الدولة التي نصبته بطلاً قومياً من شرف اللقب، عقب نشر تحقيق "غابو" عنه.

لماذا استذكار هذه الحكاية؟ ببساطة، لأن أمراً مشابهاً حدث، بداية الأسبوع الماضي، في الرباط. فبعد انتظار طويل للمطر، جادت السماء بتساقطات قياسية، أدت إلى غرق أحد الأحياء الشعبية. في الأثناء، خرج علال، وهو مواطن مغربي يعمل في فرن حمام ويقيم في باحة الموقد، خرج عاري الصدر، إلا من سروال قصير، وشرع في تسليك المجاري العاطلة، تحت وابل من المطر وطوفان مائي. ووسط تهليلات السكان. نجح علال في المهمة، وارتدى ملابسه، وعاد إلى مكان عمله، لكن الكاميرات لم ترحمه، حيث تداولت المواقع الاجتماعية صوره وهو يفك الحصار عن الحي الشعبي، وأصبح، في لمح البصر، بطلاً قومياً وواجهة للتعليقات.

ثم تحول الموضوع من حادثة بسيطة، إلى نقاش سياسي واجتماعي عن دور المجالس المنتخبة والبلديات وسياسات الإنقاذ والتصدي للكوارث، وأين هي الأموال التي تصرف على منشآت البنية التحتية، ولماذا لا يُحاسَب لصوص المال العام، وتعليقات أخرى فتحت نقاش المجال العمومي على أوسع نطاق.

ها قد أصبح للمغاربة بطل قومي في لمح البصر، من أبناء الطبقات المسحوقة والمهمشين، ما دامت النخب قد فرت بجلدها إلى حافة الصمت، أو ارتمت بين أحضان المصالح.

ولأن الطبيعة تخشى الفراغ، فإنها تنتخب، أيضاً، بطلها القومي على هواها، فالفاعل السياسي اليوم، في البلاد، مشغول بالحسابات الصغيرة، ولعبة تحصين المواقع والتحضير للفرجة الانتخابية المقبلة، بينما فتح تحقيقات قضائية مع مسؤولي مؤسسات عمومية ومالية كبرى في الدولة، يشير إلى الحد الذي وصل إليه داء الفساد.

ففي ظل أجواء كهذه، لماذا لا يتحول علال المُعدَم إلى بطل قومي، ينقذ سفينة البلاد من الغرق، حتى وإن استكثر عليه المستكثرون "المنصب الشرفيّ"!

6A0D14DB-D974-44D0-BAC8-67F17323CCBF
حكيم عنكر
كاتب وصحافي مغربي، من أسرة "العربي الجديد". يقول: الكرامة أولاً واخيراً، حين تسير على قدميها في مدننا، سنصبح أحراراً..