أشباح العثمانيين

23 سبتمبر 2015
الشرطة الهنغارية تحاصر جموعاً من اللاجئين (توماس كامبين/الأناضول)
+ الخط -
هذه صورة لا تُنسى. ليست صورة الطفل عيلان الذي دفع الموج جثته إلى شاطئ مدينة بدروم التركية وصدمت العالم، بل صورة المصورة الصحافية الهنغارية التي التقط لها مصور آخر، مقطع فيديو يندر مثاله: تطارد بكاميرتها التلفزيونية كما لو كانت هراوة، وكمامة على أنفها كما لو كانت في مكان موبوء، لاجئين سوريين، لا لتلتقط لهم صورا للتلفزيون الذي تعمل فيه، بل لتوقعهم أرضاً. تتكرر هذه الصورة: المصورة الهنغارية نفسها تركل طفلة تحاول أن تفرّ من وجه الشرطة. صور مذهلة لهذه الشابة التي تبين لاحقاً أنها تُدعى بيترا لازلو، وتعمل لصالح قناة لها علاقة باليمين المتطرف في هنغاريا.
نحن نعيش في عصر الصور التي تتدفق من كل مكان، وإلى كل مكان. لا شيء ينتقل بسرعة البرق أكثر من الصور، خصوصا عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت متوافرة لأي شخص على وجه الأرض تقريبا. فمن ليس لديه حاسوب محمول (لاب توب) أو حاسوب لوحي (آي باد)، لديه موبايل على الأقل. من يقول إن الرأسمالية توحّد العالم بالسلعة لا يجانب الصواب، إذ ليس هناك، اليوم، أكثر انتشارا من "سلعة" الهواتف المحمولة القادرة كلها على الانشباك بالإنترنت. هكذا طار الفيديو الذي وضعه صحافي ألماني على حسابه على "تويتر" إلى الأرجاء كافة. أصبح صورة، مختصرة، لما لاقاه اللاجئون السوريون من عسف يبلغ حدود العنصرية الصرفة على يد السلطات الهنغارية.. ولا يزالون.
أتحدث هنا عن ما بلغه وضع اللاجئين السوريين من حرج في عالم يعمد إلى إغلاق حدوده وخَفْرِ سواحله، ومن لم يفعل تنطلق من حدوده وشواطئه مواكب الموت والضياع. السؤال الأساسي الذي سيظل مطروحا، على هذا الصعيد، هو: كيف وصل السوريون إلى هذه الحال؟ ومن هو المسؤول عن هذا اللجوء واسع النطاق الذي يبدو أشبه بالترحيل الذي قامت به القوات الصهيونية لسكان فلسطين كي تُحلّ في بيوتهم وأرضهم مهاجرين يهوداً، قادمين من أربعة أركان الدنيا؟ ثم، هل هناك خطة مشابهة لما جرى في فلسطين يتم وضعها موضع التطبيق في سورية، على الأقل في مناطق بعينها؟ سؤالان مطروحان بقوة، لكنهما ليسا موضوعي اليوم.


اليمين والكنيسة
أثار مقال رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان، الذي كتبه لصحيفة "فرانكفورت الجماينه" الألمانية، ردود فعل عديدة. استنكرته دول في الاتحاد الأوروبي وصحف ومنظمات أهلية وحقوقية أوروبية ودولية، لكنه قوبل، إضافة إلى إجراءاته على الأرض، بترحيب من اليمين الهنغاري والكتلة "الاشتراكية" السابقة. فماذا قال أوربان في مقاله؟
قال إن معظم اللاجئين المتدفقين الآن إلى أوروبا مسلمون، تربوا في تقاليد دينية وثقافية مختلفة عما نعرفه، وهذا أمر مهم، لأن أوروبا متجذّرة في المسيحية. وقال: أليس مقلقاً، بحد ذاته، أن المسيحية الأوروبية بالكاد قادرة على إبقاء أوروبا مسيحية؟ وشدّد: ليس لدينا خيار آخر سوى "الدفاع" عن حدودنا!
بيد أن هذا ليس موقف الكنائس الأوروبية الكبرى التي طالبت سلطاتها بفتح أبوابها أمام أفواج الفارّين من الموت العاجل في بلادهم، وأسهمت هي، ذاتها، في إيواء لاجئين. فإفزاع الأوروبيين من "الغزو" الإسلامي من الشرق، على هيئة أفواج من اللاجئين، ليس موقفاً دينياً مسيحياً بقدر ما هو موقف "قومي" يرتدي مسوح الدين. ولكن بسبب السمعة السيئة لـ"القومية" في الذاكرة الأوروبية، تتسمى بعض أحزاب اليمين وأقصى اليمين بتسميات مراوغة، ديمقراطية أو ليبرالية، غير أن هذا لا يغير جوهرها القومي على ما هو حال حزب أوربان، المسمى "فيداس"، الذي يحظى بشعبية كبيرة بين الناخبين الهنغاريين، يليه حزب يميني أكثر تطرفاً، ما يجعلنا أمام قوة ناخبة (لا أريد أن أقول شعباً) يميل إلى اليمين ويفضّله، بل يميل، عموماً، إلى العزلة. فمن بين كل اللغات الأوروبية ذات الجذور اللاتينية أو الجرمانية أو السلافية، تتميز اللغة المجرية باختلاف أصلها.. ويمكن القول بغموضه، رغم تصنيفها في عائلة اللغات الأورالية التي يتحدث بها الفنلنديون والأستونيون.
من بابا روما إلى رئيس أساقفة كانتر بري في بريطانيا، مروراً بالكنائس الألمانية، توحّد الموقف الكنسي من مأساة اللاجئين السوريين في حضِّ دول الاتحاد الأوروبي على استقبال الفارين ومنحهم حق اللجوء. وكان بابا روما قد قام بزيارة إلى جزيرة لمبيدوزا الإيطالية، التي تعتبر المعبر الأول للاجئين القادمين من شواطئ الشمال الأفريقي. وفي هذا السياق تتساءل مجلة "إيكونوميست" عما إذا كانت أزمة اللاجئين الإنسانية هذه فرصة مناسبة للكنيسة للتبشير الديني، ومحاولة استقطاب بعضهم إلى المسيحية؟ تجد المجلة البريطانية المرموقة بعض الممارسات التي تدلُّ على ذلك، مثل تحوّل أعداد كبيرة من اللاجئين الإيرانيين والأفغان إلى المسيحية على يد إحدى كنائس برلين، غير أنها لا تصل إلى حد اعتبار ذلك ممارسة عامة، سواء من قبل الكنائس الأوروبية، أو المنظمات الإنسانية والإغاثية ذات الخلفية المسيحية.

أشباح العثمانيين
لكن الوضع ليس هكذا في هنغاريا. فلا يُرى اللاجئون القادمون من الشرق العربي كما يراهم الألمان الذين لم تصلهم رياح العثمانيين، ولم ترفرف فوق عواصمهم رايات الإسلام التركي، ولا هو موقف الفرنسيين الذين انتخبت شريحة لا بأس بها منهم حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، ولا هو موقف البريطانيين الذين لا يتأثرون، عموماً، بالعوامل الدينية في مواقفهم من الآخرين. في هنغاريا، التي تسارع الآن إلى بناء أول جدار في أوروبا بعدما تحطمت الجدران وألغيت الحدود، لا يُنظر إلى اللاجئين القادمين من "الشرق" على النحو ذاته. فلم يتأخر رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، اليميني، عن التذكير بالماضي العثماني. فإن كان لا يوجد اليوم عثمانيون يزحفون بجيوشهم الجرارة إلى قلب أوروبا الشرقية والوسطى، فهناك شكل آخر من الزحف: إنها هذه الأمواج المتعاقبة من اللاجئين.
ويبدو أن شبح العثمانيين الذين مكثوا في المجر (هنغاريا) نحو قرن ونصف القرن، أيّ أقلّ مما مكثوا في مناطق أخرى من وسط أوروبا وتركوا فيها جاليات إسلامية كبيرة، لا يزال حاضراً في الذاكرة الجمعية الهنغارية التي ورثت تاريخ المملكة المجرية القوية. معروف أن السلطان العثماني سليمان القانوني هو الذي زحف بجيشه الجرار إلى مملكة المجر، بعد اجتياحه صربيا (خط سير اللاجئين الحالي!) ليهزم أقوى مملكة في وسط أوروبا في أقل من ساعتين في معركة وادي "موهاج" المُذلَّة. في تلك المعركة، التي دخلت في الكلام اليومي المجري بوصفها علامة على النحس، قُتل ملك المجر لويس الثاني وكرادلته وقادة جيشه الضخم، واحتفل سليمان القانوني بانتصاره الصاعق في عيد الأضحى في 10 سبتمبر/أيلول عام 1526 في قصر لويس الثاني في بودابست.
المساهمون