أسبوع حاسم لـ"بريكست": هل تنجح مساومات اللحظة الأخيرة؟

22 مارس 2019
وصلت ماي أمس إلى بروكسل لطلب تمديد موعد بريكست(Getty)
+ الخط -
لم يتبق على الموعد القانوني لـ"بريكست" (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) المحدد في التاسع والعشرين من شهر مارس/آذار الحالي سوى أسبوع واحد، فيما لا تزال الحكومة البريطانية والبرلمان منخرطين في لعبة الاتهامات حول من الذي عطّل التوصّل إلى اتفاق حول آليات الخروج وشكله القانوني.
وحتى اللحظة، لا يُعلم ما إذا كانت بريطانيا ستخرج في هذا التاريخ من دون اتفاق، أم سيمدّ الاتحاد الأوروبي لها طوق النجاة من خلال تمديد محدود الأجل بثلاثة أشهر حتى نهاية يونيو/حزيران المقبل، وفق ما طلبت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، أمس الخميس، من بروكسل التي وصلت إليها لحضور قمة لقادة التكتل لهذا الغرض.
الاتحاد الأوروبي من طرفه، ألقى بالكرة في الملعب البريطاني، قائلاً: "نتفهّم الحاجة للتمديد وهذا ممكن، شرط القبول بالاتفاق المبرم مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي"، بحسب رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك.
لكن زعيم المعارضة البريطانية جيرمي كوربين، قال أمس إنه لا توجد أغلبية تؤيد اتفاق "بريكست" الخاص بماي، وإنه يركز على الوصول إلى أغلبية في البرلمان لتمرير هذا الاتفاق. وأوضح كوربين، الذي حضر بدوره إلى بروكسل لعقد اجتماعات مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي وكبير مفاوضي الاتحاد في محادثات بريكست، مايكل بارنييه، "يمكننا أن نبني أغلبية سوف تمنع الانسحاب من دون اتفاق، وكل الفوضى التي ستسفر عن هذا الخيار".
وذهب وزير الخارجية البريطاني جيريمي هنت أبعد من ذلك، عندما قال أمس الخميس، إن الاتحاد الأوروبي قد يعقد الأسبوع المقبل قمة طارئة لعرض تمديد مهلة خروج بريطانيا من التكتل بشروط ربما تكون عسيرة مثل إجراء استفتاء آخر.
وأوضح هنت في حديث لـ"هيئة الإذاعة البريطانية" (بي.بي.سي) "ربما يعقد الاتحاد الأوروبي قمة طارئة لعرض التمديد علينا، ولسنا على يقين من ذلك"، مضيفاً "نحن لا نعلم طول فترة التمديد وقد تكون هناك شروط صعبة للغاية" مثل إجراء استفتاء ثان. ورأى أنه من غير المرجح أن يجد مثل هذا الاقتراح دعماً من البرلمان البريطاني. وتابع قائلاً إنّ الحكومة لا تعلم بعد إن كان اتفاق ماي للخروج من الاتحاد والذي قوبل بالرفض مرتين، سيطرح مجدداً على البرلمان في الأسبوع المقبل. وأضاف "هل نحل ذلك أم ستتوقف عملية الخروج برمتها"؟ وذكر أن الانفصال بدون اتفاق يوم 29 مارس الحالي ما يزال هو البديل القانوني. وقال إنه إذا استمرت الأزمة في الأسبوع المقبل، فلا يزال أمام البرلمان خيار التصويت على التخلي عن المادة 50 وعملية الخروج من الاتحاد برمتها، وإن كان ذلك "مستبعداً بشدة".
وفيما غادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بلاده، أمس، إلى بروكسل أبكر مما هو متوقع للقاء ماي قبل القمة، بحسب ما ذكرت الرئاسة الفرنسية في بيان، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خلال حديث لنواب ألمان أمس، إنها ستعمل "حتى الساعة الأخيرة" لمحاولة التأكد من أنّ بريطانيا لن تغادر الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق.
وكما توسك، أشارت ميركل إلى أنّ قادة الاتحاد قد يوافقون على تأجيل قصير الأمد لخروج بريطانيا من الاتحاد من حيث المبدأ، إذا ما وافق مجلس العموم البريطاني على اتفاق "بريكست "الأسبوع المقبل، مضيفةً أنه إذا لم يحدث ذلك، فقد تكون هناك حاجة إلى قمة أخرى للاتحاد الأوروبي.
وبانتظار حسم مسارات "بريكست" يبقى السؤال الأهم كيف وصلت بريطانيا إلى هذه الأزمة، وسط حالة غير مسبوقة من التخبّط في السياسة البريطانية؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من العودة قليلاً إلى الخلف، وإلقاء الضوء على تطورات هذه الأزمة. تعود البدايات إلى سنوات من التفاوض بين الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي على ضرورة إدخال تعديلات على النظام الأساسي للاتحاد، لمنح دوله سلطات على حدودها، والتحكم فيمن يدخل ويخرج، وخصوصاً إلى المملكة المتحدة، إضافة إلى توسيع صلاحيات البرلمانات المحلية ليكون لها القرار في إصدار تشريعات ذات فاعلية نفاذ قانونية.
انهارت تلك المفاوضات في عهد رئيس الوزراء البريطاني السابق المحافظ ديفيد كاميرون، والذي كان قد وعد بإجراء استفتاء على البقاء في الاتحاد الأوروبي حال فشل تلك المفاوضات بالتوصل إلى التعديلات المطلوبة. وكان يفترض استخدام التلويح بإجراء الاستفتاء كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي، ليس إلا، بحسب محللين سياسيين.

ويبدو أن الطرفين لم يقدّرا جدياً هذا التهديد، بالنظر إلى أنّ استطلاعات الرأي كانت تشير إلى أنّ هناك غالبية مريحة لدى البريطانيين للبقاء في الاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال، أشارت استطلاعات الرأي في إبريل/نيسان من العام 2015، وقبل نحو 14 شهراً من إجراء الاستفتاء، أنّ نحو 47 في المائة يرغبون في البقاء، مقابل 31 في المائة يودون الخروج، بحسب موقع "يوغوف" (YouGov) البريطاني المختص في إجراء استطلاعات الرأي.
في العام 2016، أعلن كاميرون فشل المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، ووُضع مباشرة أمام الالتزام الانتخابي، بإجراء الاستفتاء، وهذا ما كان. وقد أدت الوعود التي أطلقتها حملات المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي، كالتحكم في الحدود، والخروج من سيطرة البرلمان والمحكمة الأوروبيين، والأهم عدم دفع المستحقات المالية والتي تبلغ نحو 13 مليار جنيه استرليني سنوياً بحسب أرقام العام 2017، على وتر الانتماء الوطني، في ظلّ خطاب شعبوي قاده حزب "الاستقلال" البريطاني، مما دفع بأولئك الذين لم يحسموا رأيهم بالتصويت لصالح الخروج.
النتيجة كانت غير متوقعة بحسب استطلاعات الرأي كافة وآراء المحللين السياسيين البريطانيين وحتى الأوروبيين. حسم الشعب البريطاني أمره بالخروج بغالبية ضئيلة بنسبة 51.9 في المائة، مقابل 48.1 في المائة للذين أرادوا البقاء. التأثير الأكبر كان الانقسام الواضح في الرأي، بين المؤيدين والمعارضين. وامتد هذا الانقسام حتى داخل الحزبين الكبيرين، "المحافظون" و"العمال". وفي حين صوّتت غالبية الإسكتلنديين والأيرلنديين الشماليين لصالح البقاء بغالبية ساحقة، صوت الإنكليز بغالبية كبيرة لصالح الخروج.
على إثر هذه النتيجة غير المتوقعة، استقال كاميرون من منصبه، كونه كان مؤيداً للبقاء، وسلّم الراية لتيريزا ماي التي انتخبت رئيسة لحزب المحافظين. وحاولت ماي منذ استلامها رئاسة الحزب والحكومة، التركيز على إثبات قدرتها على قيادة حزب "المحافظين" الذي انقسم بين مؤيد ومعارض للخروج من الاتحاد الأوروبي، وظهرت كتلة صلبة داخله تشدّدت في ضرورة الخروج من الاتحاد الأوروبي "بأي وسيلة وشكل"، وفي أقرب فرصة ممكنة.
ارتكبت ماي خطأ فادحاً بالدعوة إلى انتخابات برلمانية عامة في العام نفسه، في محاولة لزيادة مقاعد الحزب داخل البرلمان وترسيخ قاعدتها، إلا أنها فوجئت وللمرة الثانية بعكس نتائج الاستطلاع، بتقدّم حزب "العمال" المعارض على حساب "المحافظين"، وجُرّدت من الغالبية، على الرغم من بقاء المحافظين الكتلة الكبرى داخل البرلمان. واضطرت ماي إلى التحالف مع حزب "الديمقراطيين الوحدوي الأيرلندي" للوصول إلى الغالبية، وهو ما جعلها تحت رحمة الأصوات العشرة التي يمتلكها هذا الحزب.
ارتكبت ماي خطأها الثاني بالإدارة السيئة للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وانفرادها بها، من دون استشارة الحكومات المحلية (اسكتلندا، أيرلندا الشمالية وويلز)، وعدم إشراك الأحزاب الأخرى داخل البرلمان. حتى أنها لم تكن تطلع أعضاء حزبها على مجريات المفاوضات، كما كان يصرح أعضاء من الحزب باستهزاء داخل جدران البرلمان.
ويتفق كثير من المحللين السياسيين على أنّ ماي كانت تطمح إلى إبقاء حزبها موحداً خلف قيادتها، وتسجيل اسمها في التاريخ على أنها من قادت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي. هذا السعي الحثيث لإثبات قدرتها القيادية، كان السبب الأساسي في توجيه انتقادات عنيفة لها حتى من داخل حزبها، بالتوازي مع تسجيل الكثير من الاستقالات من حكومتها، كان أبرزها استقالة وزير الخارجية بوريس جونسون، أحد أبرز قيادات حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، إضافة لوزيرين قادا مفاوضات اتفاق الخروج عن الجانب البريطاني، وهما ديفيد ديفيس ودومينيك راب، والثلاثة هم من المرشحين لخلافة ماي، حال تنحيها أو انتهاء مهلة قيادتها لحزب المحافظين. واتهم هؤلاء ماي بقيادة بريطانيا نحو "الخضوع والاستسلام" لشروط الاتحاد الأوروبي.
وتبعت تلك الاستقالات استقالات أخرى من الحكومة، وحتى بمحاولة غير ناجحة لحجب الثقة عن ماي داخل حزب "المحافظين"، انتهت بانشقاق ثلاثة أعضاء من الحزب وانضمامهم لمنشقين من حزب "العمال" تحت جبهة برلمانية جديدة. هذه الانتقادات باتت علنية وتوّجت داخل البرلمان بإعلان أحد القياديين البارزين في الحزب عن "خجله" من كونه عضواً في حزب "المحافظين" بقيادة ماي.
الأحزاب المعارضة لم تكن أقلّ حدّة في انتقاد سياسة ماي للمفاوضات، وتجاهل تحذيراتهم ومقترحاتهم كافة. حتى إنّ الحزب "الاسكتلندي الوطني" بات يطرح مجدداً رغبته في إجراء استفتاء ثان لاستقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة.
النتيجة التي وصلت إليها ماي هي وجود كتلة معارضة قوية داخل البرلمان لتوجهاتها كافة، مدعومة برفض نحو 130 عضواً من حزبها لاتفاقها مع الاتحاد الأوروبي على مسودة الخروج. وفي أول تصويت على خطتها، جوبهت بهزيمة ساحقة وبغالبية 230 صوتاً، وهي أعلى نسبة لهزيمة مقترح حكومي داخل البرلمان منذ إنشائه، بحسب مصادر برلمانية بريطانية.
لكن رغم ذلك، لم تستسلم ماي حتى الآن لكل الضغوط التي مورست عليها من داخل الحزب ومن الأحزاب المعارضة، ولم تغير سياستها، لا بل إنها خرجت في مؤتمر صحافي مساء أول من أمس الأربعاء وقبل أيام من الموعد المفترض للخروج من الاتحاد الأوربي، متهمةً أعضاء البرلمان بإسقاط كل محاولاتها للخروج باتفاق مع الاتحاد الأوروبي، و"عدم الاكتراث لما يريده الناس من الشعور بالاستقرار، والتعب من العبثية في نقاشات سبل الخروج من الاتحاد الأوروبي".
وفي ظلّ الهيكلية الحالية للبرلمان البريطاني والانقسام الضارب جذوره في الأحزاب، ما بين مؤيد للخروج من الاتحاد الأوروبي ورافض له، ومؤيد لاتفاق ماي ورافض له، وبين راغب بإجراء استفتاء آخر ورافض له، وبين راغب في إعادة التفاوض من نقطة الصفر ورافض لها، وما بين مؤيد للخروج حتى بدون اتفاق ورافض له، لا تبدو الأزمة البريطانية الأخطر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، على وشك الانتهاء قريباً، وتبقى المآلات مفتوحة على كل الخيارات.