أحلام طفل تتحقق في الـ 65

أحلام طفل تتحقق في الـ 65

09 أكتوبر 2014
هارلاند ساندرز.. عزيمة لا تقهر (Getty)
+ الخط -
لم يرث ذلك الرجل أموالاً طائلة عن أجداده، كما يولد أولئك الذين في أفواههم ملاعق من ذهب، لم يتاجر في المخدّرات أو في بيع أعضاء بشرية، كما فعل ويفعل الكثيرون في سبيل اللحاق السريع والبغيض بعالم الأثرياء الجشع. لم يتخرّج من أهمّ الجامعات. كلّ ما في الأمر أنه عاش حياة إنسان عادي، لا بل أقل من عادي، وبدأت معاناته عندما كان في سنّ الخامسة. 
ولد هارلاند ساندرز، في التاسع من سبتمبر/ أيلول عام 1890، في منزل يتكوّن من أربع غرف، ويبعد خمسة أميال عن ولاية إنديانا في الولايات المتحدة الأميركية. كانت عائلته فقيرة جداً وعانى والده كثيراً حتى يؤمن لقمة العيش لأولاده، ولم يكفِ عمله في مزرعته حاجة العائلة، فتوجّه إلى العمل في محلّ جزارة. في صيف 1895 عانى من حمّى شديدة، وتوفي على إثرها.
رحل تاركاً الوالدة وحدها تواجه مصيرها مع ثلاثة أطفال أيتام. وكما جرت العادة، غالباً ما يكون الابن الأكبر ضحية العائلة. هكذا وقع عبء وفاة والده على عاتقه، حينما بدأت والدته العمل في مصنع لتعليب الطماطم، تاركة أطفالها بعهدته. فتحمّل باكراً المسؤولية، وكان بالكاد يصل طوله إلى مستوى الفرن لتحضير الطعام. وفي سن السّابعة، نجح بطهو أوّل قطعة خبز، ومن فرحته أخذها إلى المصنع، حيث تعمل والدته ليريها إنجازه الصغير. ولم يدرك ساندرز حينها أنّ الطهو سيكون سرّ نجاحه في المستقبل.
وحين بلغ العاشرة من عمره، رأت والدته أنّ الوقت قد حان ليبدأ العمل بأجر. انطلقت مسيرة كفاح ساندرز مع أوّل مهنة له، في مزارع مجاورة لسكنه، مقابل دولارين فقط في الشهر. كان صغيراً للقيام بأعمال الرجال، ولذلك خسر عمله بعد مدّة قصيرة، كما سيفقد معظم الوظائف التالية فيما بعد.
في سنّ الـ 12هرب من المنزل، بعد زواج والدته من رجل تسلّط عليه، وكان يضربه حين تغيب الوالدة في العمل. أقام في سكن يعود إلى خاله، وعمل معه في تنظيف سكّة الحديد من الرماد. لم يكن ساندرز صبوراً، وتميّز بحسّ المغامرة، ففي سن الـ16 ادّعى أنّ عمره 18 كي يلتحق بالجيش. لكنّهم أعادوه إلى منزله، بعدما شعر بالغثيان في السفينة المتوجّهة إلى كوبا.
كان ساندرز أوفر حظاً مع النساء منه في العمل، والتقى في سنة 1909 بفتاة جميلة، جوزفين كينج، وتزوجّا بعد فترة قصيرة، وأنجبا صبياً توفي لاحقاً، بسبب التهاب اللوزتين، وابنتين هما مارجريت وميلدريد.
توتّرت العلاقة الزوجية بعد سنوات، بسبب عمل ساندرز في سكك الحديد، حيث أمضى فترات طويلة بعيداً عن عائلته، مما دفع زوجته إلى هجره، والرحيل إلى منطقة جاسبر في ولاية ألاباما الأميركية، مع ابنتيهما. لم يتحمّل ساندرز غياب طفلتيه واشتعل غضباً من تصرّف زوجته، فلحق بها بهدف الانتقام منها وخطف الفتاتين. اختبأ بين الحشائش أمام منزل زوجته ثماني ساعات، على أمل أن تخرج ابنتاه للعب، غير أنّ الفتاتين بقيتا في الداخل. هدأ الرجل بعد طول الانتظار وقرّر التحدّث إلى زوجته، وعاشا سويّاً مجدّداً، إلى أن تطلّقا في 1947.
عمل ساندرز في شركة تأمين، غير أنّه طُرد بسبب تمرّده، ثم انتقل إلى العمل في شركة تأمين أخرى في ولاية نيو جرسي. واستمرّ على هذه الحال يتنقل من وظيفة إلى أخرى، إلى أن انتقل إلى ولاية كنتاكي في سنّ الـ34 ، فعمل بشركة عجلات سيارات "ميتشلان"، وحقق نجاحات باهرة في المبيعات، واشترى أوّل سيارة جديدة. إلاّ أنّ الحظ السيئ كان متربّصاً به كالعادة، وتعرّض لحادث سير بعد سقوطه عن جسر، وأصيب بجروح بليغة في رأسه، منعته من الاستمرار في العمل، وخسر وظيفته.
بهدف تحسين أوضاعه المادية قرّر دراسة القانون. فراح يعمل نهاراً ويدرس ليلاً. ومجدّداً خسر وظيفته بعد عراك مع زميل، كما فقد وظيفته في المحاماة أيضاً بعد عراك آخر مع زبونه، في المحكمة. قرّر ساندرز أخيراً العمل في مجال يبرع فيه واختار الطهو، بعدما لفت انتباهه حديث مع صديق. كان يتأفف من سوء نوعية الوجبات في مطاعم المنطقة. فقرّر أن يبدأ ببيع أطباق الدجاج واللحوم في 1930، من منزله. جمع مبلغاً سمح له بافتتاح مطعم وموتيل "كافيه ساندرز" في عام 1939. ازدحم المكان بالزبائن وحقق مبيعات هائلة، بعد 25 عاماً من التخبّط. لكن مجدّداً، كالعادة أصابه النحس إذ أمرت السلطات ببيع الموتيل والمطعم لشقّ طريق مكانه، وحصل بالمقابل على 75 ألف دولار أميركي. كانت بالكاد تكفي لتغطية فواتيره والضرائب.
خسارة سنوات من العمل والكفاح كانت كافية لتهدّ عزيمة أيّ كان، خصوصاً في سن الـ65، وهو عمر التقاعد. إلاّ أنّ عزيمة ساندرز كانت أقوى فراح يفكّر في أيّ مجال يبرع كي يبدأ من جديد، وقرّر بيع امتياز وصفة دجاج ابتكرها بنفسه إلى أكبر وأهمّ المطاعم آنذاك، على أن يأخذ نسبة ربح من المبيعات. ولم تمض سنة حتّى تضاعفت أرباح ذلك المطعم، لا بل زادت بنسبة 75 بالمئة. جال ساندرز شوارع أميركا بحثاً عن مطاعم أخرى، ليروّج لوصفة الدجاج خاصّته. رفض الكثيرون شراءها لكنّه لم ييأس. أقنع بعض أصحاب المطاعم بشرائها، وتحوّل هؤلاء إلى أثرياء بعد فترة زمنية قصيرة.
كان لساندرز نصيب من الأرباح، فافتتح مطعمه في 1959، وحققت سلسلة مطاعم الدجاج المقلي للوجبات السريعة أوّل انتشار على مستوى عالمي، وصل إلى أكثر من 600 فرع ما بين الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا والمكسيك وجامايكا.
أراد أن يظهر بصورة مميّزة، فارتدى بدلة بيضاء متشبّهاً بشخصية كارتونية، كان يشاهدها في طفولته، لتصبح هذه الصورة الشعار، الذي نراه اليوم على جميع مطاعمه المنتشرة حول العالم، والتي تعتبر ثاني أكبر سلسلة مطاعم للوجبات السريعة. باع ساندرز جميع أسهمه بمليوني دولار أميركي عام 1964، باستثناء، أسهمه في كندا وأميركا، وكسب قضية في المحكمة في سن الـ 85، جلبت له ملايين الدولارات. وصل عدد مطاعم ساندرز، في ديسمبر/كانون الأوّل الفائت إلى 18875 في 118 دولة حول العالم.

دلالات

المساهمون