أحلام اليقظة بوابةٌ إلى المجد أحياناً

11 ابريل 2014
أحلام اليقظة سيطرة معرفية لايصلها الانسان العادي.
+ الخط -

كيف لنشاطٍ يعدّه العلماء وقتاً ضائعاً من أزمنة الوعي أن ينتج فوائد لا تتحقّق إلا بممارسة أقسى وأدق التدريبات على التحكّم بالوعي؟.. سؤال حيّر العلماء وهم يتأملون لغزاً بسيطاً اسمه: "أحلام اليقظة"

عالم النفس الأميركي سكوت باري كوفمان، واحد من هؤلاء العلماء الذين شدّ انتباههم هذا النشاط الملغّز للعقل البشري، وحاول أن يفكّ طلاسمه بين الحلم واليقظة، لأنه واحد ممّن شكلت حياتهم أحلام اليقظة.. يتذكر كوفمان، وهو يحكي تجربته الشخصية ـ التي نشرتها مجلة "سايكولوجي توداي" ـ عندما سأله أحد علماء النفس في طفولته ذلك السؤال التقليدي الذي يطرحه الكبار على الصغار: "ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟"،.. "ومن دون تردد، أجبته بالحلم الذي راودني طويلاً أن أصبح عالم نفس، ألقى الكثير من الأحاديث".

وبدلاً من أن تدخله تلك الإجابة إلى دائرة المحاضرات عن كيفية تحقيق الأهداف وما شابه من أحاديث الكبار للصغار، كانت تلك الاجابة سبباً في أن يدخل كوفمان عالم ذوي الاحتياجات الخاصة، بعدما أخبر العالم النفسي والديه أنه يعاني حالة من "أوهام العَظَمة"، ليتم توجيهه إلى تعليم خاص.

"قبلها بأعوام قليلة، وتحديداً في سن الثالثة، أُصبت بالتهاب الأذن أكثر من عشرين مرة، أدت إلى شبه فقدان للسمع. وتسببت تلك الإعاقة في صعوبة الاستيعاب والمحادثة. كنت أشعر بأنني متأخر بخطوات عن سائر الاطفال في الصف المدرسي. فانزويت في عالمي الخاص. كنت أعود الى البيت مساءً، لأكتب قصصاً عن السفر عبر الزمن، كنت أتخيّل أحداث مسلسلات، وأرسم في ذهني سيناريو لمستقبلي كطبيب نفسي ناجح".

"أدخلوني عالم الإعاقة، فأدخلتُ نفسي في عالم الحالمين. وكانت أحلام اليقظة المبكرة تلك، هي الملاذ المناسب الذي كنت أحتاجه للهروب من الواقع اليومي في المدرسة، حيث كنت أعاني من اعتداءات مستمرة من التلاميذ في المدرسة، وعدم اهتمام المدرّسين. ولكن لا أحد من المدرّسين ولا الطلاب، كان قادراً على الدخول إلى خيالي الخاص المليء بخطط مستقبلية لعالمي المختلف، بل كانت عزلتي الذهنية دليلاً بالنسبة لهم على إعاقتي التعليمية.

هذه التجارب المبكرة، جعلتني أتعرّف إلى قوة أحلام اليقظة، وأعطتني القدرة على التغلّب على معوقات الحاضر بالسفر إلى أماكن وأزمنة بعيدة بخيالي، لأصنع ذلك التيار من الصور والذكريات، والأوهام، والحوارات الداخلية، والتي تنشأ من تلقاء نفسها، وليس من خلال الحواس أو الإدراك الحسي سمعاً وبصراً ونطقاً..

أذكر أن مؤسس علم النفس الأميركي، وليام جيمس، عبّر عن سخريته ممّن اتهموه بالغائب الحاضر. وقال: "اتُّهمتُ بأنني شارد الذهن، لكن ذهني كان حاضراً بأفكاره الخاصة. فللأسف، لم يكن المؤرخون منصفين مع الحالمين". فقد وصف سيغموند فرويد، عالم النفس الشهير، الحالمين بـ"الطفوليين" والـ"نوروتيكيين"، أي متقلّبي المزاج ومرضى جنون العظمة.

في الستينيات من القرن الماضي، كانت كُتبُ علم النفس تحذّر المدرّسين، في بعض المقاطعات الاميركية، من أن الاطفال الحالمين ليسوا طبيعيين بل هم في في طريقهم إلى المرض النفسي العصبي. وحتى الآن، هناك تركيز غير عادل، من جانب العلماء، على النتائج السلبية فقط لأحلام اليقظة. وفي دراسة حديثة أعلن اثنان من علماء النفس أن "الذهن الشارد هو ذهن غير سعيد".

ومنذ أكثر من خمسين عاماً، أثبتت دراسة قام بها عالم النفس في جامعة يال، جيروم ل. سينغر، أن أحلام اليقظة عنصر طبيعي وشائع من عناصر التجربة الإنسانية. فقد اكتشف سينغر أن الرقعة الأكثر اتّساعاً في المجتمع هي التي تتكوّن من "الحالمين السعداء" ـ وهم الأشخاص الذين يتمتعون بخيالات ورؤى شديدة الحيوية، ويستخدمون أحلامهم في التخطيط لمستقبلهم. هؤلاء الحالمين يعرفون قيمة تجاربهم الخاصة ويستمتعون بها، وهم على استعداد للمخاطرة في إنفاق الوقت عليها، لكنهم أيضاً يستطيعون استخدامها في التخطيط الفعال وللتسلية في فترات السأم والضجر والنشاطات المملّة المفروضة عليهم. وهذا ما أطلق عليه سينغر: "أحلام اليقظة الإيجابية البنّاءة"..

لكن هذه الاكتشافات الكلاسيكية القديمة، عادة ما يتم تجاهلها لتبقى صورة أحلام اليقظة كنشاط ذهني لا فائدة منه في نظر الآباء والمدرّسين وأرباب العمل وعلماء المعرفة على حدّ سواء.

ولكن، في مفهوم نظرية النشوء والارتقاء، فإن وجهة نظرهم هذه لا معنى لها، كما يقول كوفمان، الذي يتساءل: لماذا علينا أن نمضي أكثر من نصف ساعات صحونا في نشاط يمكنه أن يهدد حياتنا نفسها، إن لم يكن ذلك لهدف ما؟ من انستاغرام إلى البلاي ستيشن، ومن اجتماعات مجالس الإدارات إلى قاعات المحاضرات والدري، نعيش عصراً تضغط فيه البيئة الخارجية وتتنافس للاستحواذ على اهتمامنا. ونادراً ما يبقى للناس وقت للتأمل والتفكير، والتخيُّل وأحلام اليقظة.

وكما لاحظ سينغر "نحن، كبشر دائماً في حالة تتطلّب أن نقرّر كم من الوقت نخصصه للتفكير الذاتي، وكم نخصص للمعلومات التي نتلقاها من المجتمع الخارجي أو البيئة المحيطة بنا".

وقد اتّضح أن القدرة على الترحال الذهني عبرالزمن، تمنحنا إمكانات هائلة لتحقيق أهدافنا ورغباتنا العميقة. فعلى مدار العقد الماضي، بدأ علماء النفس يعيدون النظر في أحلام اليقظة، واكتشفوا أن ثمّة فوائد مذهلة للفرار المؤقت من اللحظة الحاضرة. وما يزداد وضوحاً مع الأيام، هو أن أحلام اليقظة ـ ذلك النشاط الذهني الذي كان يُنظر إليه عبر التاريخ على أنه مجرد فترة فقدان للانتباه ـ يمكنه أن يؤدي إلى النتائج نفسها التي كان علماء الإدراك والمعرفة يعتقدون أنها حكر على السيطرة الإدراكية والوعي والانتباه الحاد.

وتكشف الدراسات حالياً عن أن كلفة تحوّلنا عن ذواتنا وعوالمنا الداخلية باهظة.. فنحن نهمل أحلام اليقظة، وهو ما يضرّ بقدراتنا على التعلُّم الأمثل والإبداع.

يتفاوت الناس كثيراً في مضامين أحلام يقظتهم. وقد حدّد سينغر، من خلال دراساته، ثلاثة أنواع أساسية من أحلام اليقظة، يرتبط كل منها بنوع من الشخصيات:

النوع الأول: ضعف السيطرة على الانتباه وصعوبة التركيزعلى البيئة الخارجية وانهمار الافكار المستمر، هذا النمط ليس حالماً ويسجل انخفاضاً في وخز الضمير.
النوع الثاني: وهي السلبية، وتجعل الشخص يغرق في بحر من الأفكار السلبية والصور القديمة والمواقف المخيفة ويدخله في بحر من الصراعات الداخلية، وهؤلاء الأشخاص يغلب عليهم الشعور بالذنب والانزعاج من مشاعر غير مريحة، وهم دائمو القلق والخوف من الفشل، تتملّكهم حالة من أوهام الهَوَس، عدائيون، "نيروتيكيون" للغاية.
أما النوع الثالث، وهو الإيجابية البنّاءة، فهو يساعد على نموّ الشق الايمن من الدماغ، ويقوّي الروابط العصبية، ويرتبط باكتشاف الفكرة والخيال والمشاعر والأحاسيس وبالانفتاح على التجربة التي تعطي الكثير من مؤشرات نفسية صحية، بما في ذلك السعادة والمشاعر الإيجابية..

وتلعب أحلام اليقظة دوراً كبيراً، وإنْ كان خفيّاً، في السعادة أو الراحة الشعورية. فالأشخاص الذين تراودهم أحلام يقظة سلبية أقل يكونون أقل عرضة للمشاعر السلبية والاكتئاب.

وإلى جانب مواجهة الضجر، لكونها مصدراً لتسلية مولّدة ذاتياً بلا حدود، فإن أحلام اليقظة توفّر أيضاً مساحة هائلة لاستغلال طاقاتك الشخصية وكل إمكاناتك الخاصة.

وفي دراسة حديثة، عمد باحثون إلى مقاطعة المتطوعين أثناء الاستسلام لأحلام اليقظة وطلبوا منهم تدوين أفكارهم. فوجد الباحثون قدراً كبيراً من مراحل الشرود الذهني للمتطوعين تتعلّق بأفكارهم حول المستقبل. والأهم أن مَن فكّروا أكثر في المستقبل كانت لديهم معدلات أعلى للسيطرة الانتباهية.. بمعنى أنهم كانوا الأكثر قدرة على المحافظة على أحلام يقظتهم.

وخلص الباحثون، وعلى رأسهم جوناثان شولر، من جامعة كاليفورنيا، إلى أن معظم الناس تتجه أحلام اليقظة عندهم نحو المستقبل وتتعلق بالسعي لتحقيق أهداف بعيدة الأمد. وأن أحلام اليقظة ليست من معوّقات التعلُّم، بل على العكس تفيد في عملية التعلُّم، حيث إن الحلم بالمستقبل وتخيُّله يربط الطلبة أكثر بأهدافهم وبالتالي بالطريق لتحقيق تلك الأهداف، في قاعات الدراسة والأهم على امتداد الحياة.

أحلام اليقظة أنتجت شعراء ومبدعين وعلماء أدخلوا أنفسهم في عالمهم الداخلي ومارسوا لعبة أحلام اليقظة بمهارة فائقة جداً. فالكاتب التركي المعروف، أورهان باموك، الحائز على جائزة نوبل للآداب العام 2006، كان يتخيّل، عندما كان صغيراً، عالماً آخر ألهمه الكتابة في صباه. أما العالم الشهير ألبرت أينشتاين، فكان يتصوّر نفسه سارحاً في الفضاء فوق موجة ضوء..

واذا كان أرخميدس وآينشتاين ونيوتن وضعوا النقاط على حروف اكتشافاتهم عندما كانوا مستغرقين في أحلام اليقظة، وبناءً عليه فقد اكتشف الأول العلاقة بين مستوى الماء وكتلة جسمه، وتوصل الثاني إلى نظرية النسبية، أما الثالث فطوّر نظرية الجاذبية. فهل يمكن أن نسمي ذلك مضيعة للوقت؟ ومَن منّا لم يقض قسماً من أوقات فراغه سارحاً في دنيا الأحلام، حيث متعة الهروب من واقع ضاغط أو مغاير للآمال والتطلّعات وتحقيق أهداف بعيدة المنال؟

دلالات

المساهمون