أتاي... حكاية مشروب "سحري" عشقه المغاربة

أتاي... حكاية مشروب "سحري" عشقه المغاربة

27 سبتمبر 2019
لا يحلو الشاي إلا بالنعناع (Getty)
+ الخط -
يحتل الشاي أو أتاي مكانة كبيرة في حياة المغاربة، كبيرهم قبل صغيرهم، غنيّهم قبل فقيرهم، سواء في القرى والصحارى الممتدة أم الحواضر والمدن، في الأعراس والمناسبات الاجتماعية على اختلافها. هي مكانة جعلت هذا المشروب "السحري" يتقدّم على القهوة، ويتسيد عبر العصور المائدة المغربية كعنوان لكرم الضيافة وحسن الاستقبال وكشكل من أشكال التواصل الاجتماعي.

لا عجب أن يتغنى الشعراء بهذا المشروب ولذته وفوائده: "لئن كان غيري بالمدامة مولعاً فقد ولعت نفسي بشاي معطر"، ويكون مضرب أمثال الحكماء: "أتاي العشية خير من بقرة مشوية"، و"أتاي بنعناعو خير من عشا تاجر بمتاعو (تاجر غني)"، و"أتاي ورضاة الوالدين ما يشبع منهم أحد".

من هنا بدأت القصة..

دخل الشاي إلى المغرب في مطلع القرن الثامن عشر، في عهد السلطان المولى إسماعيل، في سياق الهدايا المحمولة إلى السلاطين وكبار رجال المخزن (إدارة الدولة)، وظلّ طوال هذه الفترة حكراً على الوسط المخزني، وإلى حدود بداية القرن التاسع عشر ظلّ المشروب الجديد محصوراً في البلاد وفي أوساط علية القوم، وما بين الثلاثينيات والستينيات من القرن التاسع عشر، انتشر الشاي في الوسط الحضري، لكن لم يصبح في متناول أبناء المجتمع كافة إلا ابتداء من أربعينيات القرن العشرين، كما يقول الباحث محمد حبيدة في القراءة التي قدمها لكتاب "من الشاي إلى الأتاي، العادة والتاريخ" لمؤلفيه عبد الأحد السبتي وعبد الرحمن لخصاصي.

وبحسب حبيدة، فقد قام الشاي بثلاث وظائف، تدخل في مجالات الاقتصاد والغذاء والرمز. فمن الناحية الاقتصادية، شكل الشاي الصيني الذي سوقه الإنكليز في المغرب الجواز الذي سهل التغلغل التجاري الأوروبي، والإطار الذي توسع فيه الاقتصاد النقدي، أما من الوجهة الغذائية فإنّ تناول الشاي الحلو مكّن من الحصول على وحدات حرارية مهمة، بل أصبح المشروب الجديد بمرور الزمن غذاء تعويضياً في الأوساط الشعبية، كما تشهد على ذلك مائدة "الخبز وأتاي" لدى الفقراء. أما على مستوى الرمز، فقد اقترن الأتاي في مخيال المغاربة بالجماعة والأنس والضيافة، واقترن أيضاً بالهدية، هدية الأوروبيين للسلطان وهدية السلطان لكبراء القبائل والزوايا لأجل إلغاء الحواجز وتيسير التواصل، بل كذلك، لإبطال المقاومة وترسيخ روابط التبعية.

يطلق المغاربة جميعهم على الشاي "أتاي" و"تاي"، وهو تعريب لاسمه بالإنكليزية "تي". ومن أنواع الشاي التي كانت متداولة مع دخول المغرب تحت حماية الفرنسيين، وتزايد اهتمام المغاربة به: المفتول، والصويري (أو لمكركب، ويسميه الإنكليز "غن باودر") أما النوع الثالث فهو النميلي. ويستهلك الشاي بالنعناع أو ما يسمى عند العامة "ليقامة" وهو نبات معروف بملاءمته صحة الإنسان، لذلك أصبح هذا المشروب، يُذهب الإعياء ويطرد صداع الرأس، بالإضافة إلى شربه مع السجائر، أو أثناء القيام بعمل ما، كما هي حال الصنّاع والحرفيين فانتشر انتشار النار في الهشيم.

طقوس وتقاليد قديمة

ارتبطت بشرب الشاي مجموعة من الطقوس والتقاليد، فلم تكن أسبقية تحضيره تعطى إلا لذوي الشأن في القبيلة أو للأب في العائلة، فذلك استلزم أوصافاً محددة مثل الوقار والاتزان والأناقة، بل تفيد بعض مؤلفات نهاية القرن التاسع عشر إلى أنّ إعداد المشروب كان محظوراً على العبد والحرطاني (العبد السابق) والفقير والشخص المعوق. وكان شربه ممنوعاً في كثير من بوادي المغرب على النساء والأطفال والرعاة، وكان الرعاة والأطفال يكتفون بأكل الطبخة (وهي أوراق الشاي والنعناع المتبقية في البراد أو الإبريق بعد إفراغه من مشروب الشاي) بعد انتهاء الجماعة من شرب الشاي، كما كانت صينية الشاي ومجالس تحضيره فرصة للاجتماع والمحادثة.

صينية الشاي فرصة للاجتماع والتواصل (العربي الجديد)

رأى باحثون أنّ استهلاك الشاي خلق مضاعفات مجتمعية غريبة، وفتح بالفعل ثغرة أولى في الاستقلال الذاتي للعائلة، التي كانت في السابق تعيش على منتجاتها المحلية، وتكاثرت البقالات بسبب الإقبال على السكر والشاي، كتحول اقتصادي في المغرب المعاصر. وبسبب انتشار هذا المشروب، تفردت كلّ منطقة من مناطق المغرب، بطقوس وعادات شعبية لإعداد المشروب على إيقاع رغوة الشاي المتدفق داخل كؤوس ملونة أو صغيرة: "كؤوس تزيل آلام الرأس وتعدل المزاج، وهي خير من ألف حبة أسبرين" كما يعتقدون.

الشاي الصحراوي: كاس..رانك تييت


ظهر الشاي، أو التَّاي في بداية تناوله لدى رحّل الصحراء منذ أواسط القرن التاسع عشر كواحد من المشروبات المحرَّمة، إذ كان كثيرون يعتقدون أنّه مادة مخدرة ولا يختلف في ذلك عن الخمر والنبيذ. ويؤكد الكاتب والباحث في التراث الشعبي الصحراوي إبراهيم الحيسن لـ"العربي الجديد" أنّ الشاي في الصحراء هو تماماً مثل السوما عند الهنود (شراب مقدس)، فهو ليس مشروباً تقليدياً وحسب، بل سمة من سمات الكرم الصحراوي، وعلامة من علامات الحفاوة والاستقبال، إذ إنّ الصحراويين ينادون ضيوفهم لتناول الشاي أكثر من الأكل.

يتابع: "تقديم الشاي للضيوف في الصحراء لا يقل أهمية عن تقديم اللبن واللحم، بل إنّ بعض الضيوف يفضله على جميع أنواع المأكولات والمشروبات". كذلك، فالشاي وسيلة من وسائل التواصل والاندماج بين الأفراد والجماعات، بل قد يصبح الشاي شرطاً ضرورياً لتنظيم اللقاءات وعقد المجالس والاجتماعات.

يفضل المغاربة الشاي على القهوة (العربي الجديد)

"أح تيّيت" هكذا يطلق الحسانيون على الرجل "التياي" أي الذي يتقن إعداد الشاي على الطريقة الصحراوية، وغالباً ما يرمى بالأكواب الفارغة كعادة مرتبطة (خصوصاً إذا كان المجلس يتكون من الشباب). ومن المقولات المعروفة: شربنا شاياً صحراوياً بجيماته الثلاث: أجْمَرْ (من جمر الفحم )، وأجَّرْ (مدة إعداده طويلة)، وإجْمَاعَ (أي وسط جماعة من الناس الجالسين والمتحلِّقين حول الطبلة لشُرب الشاي، وتبادل الأحاديث والمشاركة في النقاش الذي يدور في مجلس الشاي ومائدته).


قطع الشاي مساراً طويلاً في المغرب، من رمز للعناية والتشريف انطلق شربه من القصر، لينتقل إلى كبار القوم متبعين النموذج المخزني، ثم إلى عامة الناس، وذلك مع تغلغل الاقتصاد الرأسمالي في البلاد، وهكذا انتقل الشاي من كأس "البلار" إلى كأس "العنبة" إلى كأس "حياتي"، ومهما تغيرت ثقافة الشاي وطقوسه، يبقى الأتاي، ذلك المشروب السحري الأكثر شعبية واستهلاكاً في المغرب.

دلالات