"كنت في الرّقة".. داعش كما يرويها هاربٌ

"كنت في الرّقة".. داعش كما يرويها هاربٌ

26 ابريل 2017
+ الخط -
لم يكن غريبًا أن يتصدّر كتاب "كنت في الرّقة: هارب من الدّولة الإسلامية" لصاحبه الشاب هادي يحمد نسبة المبيعات لهذه السنة في معرض الكتاب الدّولي، الذي نظّمته تونس أخيرًا.

أثار الكتاب حوله موجة من الأحاديث التي كانت عاملًا للترويج له؛ إذ لم تخل صفحات التواصل الاجتماعي ولا الصّحافة التونسيّة المحليّة ولا العربية من تناوله؛ فهو يروي قصّة شابّ تونسيّ انضوى تحت لواء ما يعرف بـ " تنظيم الدولة الإسلاميّة"، ثمّ عاد منها وفي جعبته من خيبة الأمل الكثير.

الكتاب جمع بين عدد من الأجناس الأدبية في جنس واحد، ففيه بورتريه وسيرة ذاتية وأخرى غيرية، كما تخلّله تدوين للمعطيات جاء بشكل سردي واضح ودون تكديس ممل لها، يساعد على فهم الظاهرة الداعشية ويحدد المسوّغات التي دفعت ببعض الشباب التونسيين للانخراط فيها، مع محافظة مؤلّفه على قدر كبير من الحياد.

اعتمد هادي يحمد في مؤلّفه هذا على تقنية الهرم المقلوب، حيث بدأ بيوم هروب محمّد الفاهم، بطل الكتاب، من داعش ليمرّ بعدها إلى تفاصيل الأشهر التي قضّاها في الرقة ويوميّاتها، خائضًا في سجالات حروب الكر والفرّ، ثمّ لينتهي إلى طفولته التي قضى خمس سنوات منها في دورتموند في ألمانيا، ثمّ نشأته في محافظة نابل التونسية، فالعودة في  النهاية إلى الدقائق والتفاصيل التي عاشها قبل الثورة التونسية؛ وصولًا إلى ما بعدها من سنوات الانتماء إلى المجموعات السلفية الجهاديّة قبل الالتحاق بتنظيم الدّولة.

أوّل صفحات الكتاب تحدّثت عن حيثيّات هروب محمّد الفاهم من التنظيم من دون ذكر دوافعه، بتعمّد من الكاتب لشدّ القارئ ليواصل القراءة إلى النهاية حتى يعرف السبب.

كانت اللقاءات والتسجيلات بين صاحب الكتاب هادي يحمد وبطله محمّد الفاهم قد حدثت في نوفمبر 2016، لكنّ المؤلّف كان جاهزًا ليعرض في معرض الكتاب، مع أنّ يحمد عمد إلى مراجعة محاوره بمعيّة الفاهم بعد إتمام كلّ فصل منه، علّه ينبهه إلى خطأ سرديّ أو وصفيّ فيه، أو إلى التباس أو تغيير في تفصيل من التفاصيل التي يحكيها له.

ويردّ يحمد على هذا بأنّ التصوّر المبدئي والخلفية والهيكلة الأولية للكتاب كانت جاهزة ذهنيًّا، كما كان يعود إلى النزل الذي يقيم به في تركيا بعد كلّ ساعتي تسجيل مع الفاهم ليرقنهما مباشرة كسبًا للوقت.

يمكن اعتبار هذا المؤلّف من المؤلفات النادرة التي تحمل قراءة استثنائية لموضوع السبايا في عرف تنظيم الدولة الإسلامية، وطريقة التعامل معها بالبيع والشراء، وليس بمراودة أكثر من رجل لكلّ سبيّة كما هو شائع، كما لم يتطرّق بتاتا للموضوع الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طيلة الخمس سنوات التي مضت، ألا وهو جهاد النكاح، فهادي يحمد يردّ على عدم وجود مجرّد تلميح لهذا الموضوع بأنّ جهاد النكاح مصطلح إعلامي ينخرط في إطار الحرب الإعلامية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، ولا يوجد له في معاقل التنظيم حديث ولا مكان.

توجد في الكتاب بعض الأخطاء الترقيميّة والنحوية والتركيبيّة، لكنّها لا تنال من جماليّة الأحداث ولا أهميّة الكتاب في شيء، إضافة إلى أنّ هادي لاحظ وجودها، قبل أن يقرر العناية بها في الطبعة الثانية التي جهزت أخيرًا.

"أسلوبي في صياغة الكتاب صحافي عليه بصمات سرديّة روائيّة، وإذا حفرت في ذاكرتي أجد أنني مولع بالكتب الحديثة الممزوجة بالأساليب الصحافية، وهي الكتب التي لا تجدها إلا في بلدين تقريبًا". يقول المؤلف في حديثٍ إلى "جيل".

ويضيف: "يعني مثلًا الكتب التي قرأتها قديًما وأعجبتني ككتاب (اغتيال رئيس) للكاتب عادل حمّودة، الذي عاد فيه صاحبه إلى الأبحاث والتحقيقات والشواهد، كان كتابًا بحثيًّا توثيقيًّا مرويًّا رواية قصصيّة، تقريبا ككتابي هذا".

يوضّح يحمد: "في تونس نحن لا نملك تجارب كثيرة من هذا النوع من الكتب على غرار ما نجده في المدرسة الفرنسيّة. نذكر مثلًا كتاب (العائدون the revenants) الذي قرأت منه أجزاء مهمّة، وقرأت كتبًا أخرى مشابهة فيها هذا الأسلوب الحدثي الذي أتحدّث عنه، فضلًا عن كوني مولعاً برواية الـ fiction بصفة عامّة، كرواية (فرانكشتاين في بغداد) للسعداوي، كذلك رواية (مصائر) لربعي المدهون الكاتب الفلسطيني المقيم في بريطانيا، وهو أسلوب من أروع الأساليب إذ تعتمد على التنقّل بين الأزمنة والأمكنة بطريقة متناسقة ومتناغمة، وكلّ هذه الأمثلة هي خلفيّة بالنسبة لي حفّزتني على توسّل الوسيلة التي اعتمدت في كتابي (كنت في الرقّة)".

 تأثّر يحمد بالكاتب كميل الطّويل صاحب كتاب "القاعدة وأخواتها" الذي تناول فيه فصولًا من مسلسل تنظيم القاعدة من خلال نقل قصص وحكايات لبعض الشخصيات في هذا التنظيم، حلّل عبرها ظاهرة الإسلام المتشدّد، وكان يعتمد على القصّة الإنسانية، الشيء الذي يختلف في كتابه "كنت في الرّقة" هو اعتماده أسلوب "التبئير" كما يسميّه، وهو التركيز على شخصيّة ليس بالضرورة أن تكون أيمن الظواهري أو أسامة بن لادن أو أبو بكر البغدادي، بل أي مقاتل بسيط من بين 22 ألف مقاتل انضمّوا إلى داعش في فترة معيّنة.

"التركيز على شخص معيّن، وهو محمّد الفاهم، بطل كتابي كان مجهدًا وتطلّب الكثير من الوقت والصبر وخاصّة المخاطرة، وقد جاءتني الفكرة بأن أتّخذ حياة مقاتل انضمّ إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة، وأتّخذ حكايته كمركز أشتغل عليه، بعد الوصول إليه وإقناعه بجدوى سرده لحكايته، وهذا أنفقت فيه مصروفًا بدنيًّا ولغويًّا كبيرًا لأنّه لم يكن سهلًا عليّ مطلقًا أن أضمن سلامتي أوّلًا من الجهات الأمنية ومنه هو بالذات، وثانًيا أن أكسب ثقته التامة في أنني جئته متجرّدًا من أي قيود وأنني لا أتبع أي جهة محدّدة، وكلّنا نعلم أن كثيرًا من الصحافيين في تونس وخارجها يمكن أن يكونوا عناصر مخابرات أيضًا في سياق ما يسمّى بتزاوج المصالح وتوافق الإرادات بينهم وبين الأجهزة الأمنيّة".

يرى يحمد أنّ موجة الهجرة التي شملت الشباب التونسي نحو بؤر النزاع كانت ظاهرة استثنائية تتطلّب البحث والتمحيص والتأليف، بالإضافة إلى أنّها مغرية للقراءة خصوصًا بالعودة إلى الأحداث التاريخية لهذه الجماعات وعلى رأسها أحداث "عشرية الجزائر السوداء"، لذلك ألّف كتابه البحثيّ الأوّل الذي يعنى بهذا الموضوع سنة 2015 وأسماه "تحت راية العقاب: جهاديّون تونسيّون".

ويعتبر يحمد هذا الكتاب جزءًا أوّل لكتابه الثاني "كنت في الرقّة"، رغم اختلاف الفحويين، فالأوّل حسب تعبيره كتاب نقديّ بحثيّ يصلح لأن يكون مرجعًا للباحثين، أمّا الثاني فهو سرديّ حدثيّ ينقل قصّة مقاتل بسيط، لكن الكتابين يشتركان في كونهما شملا نفس الموضوع الذي يعتبره أخطر مواضيع الساعة، وأكثرها التباسًا وحساسية والذي يتطلّب الوقوف عنده وتحليله بنظرة المحلل المحايد والمتجرّد من أية أغلال أو خلفيات ثقافية. 

يشير يحمد إلى أنّه استعمل أسلوبًا ذكيًّا لتفكيك هالة ما يعرف بتنظيم الدّولة الإسلاميّة ومعرفتها من الدّاخل من خلال كتابه "كنت في الرقّة"، ليس عبر التهجّم على هذا التنظيم أو سلخه بالعبارات النقديّة والانتقادية ولكن عبر سرد قصّة الشابّ محمّد الفاهم "الذي حلم كثيرًا بالعيش على أرض الخلافة"، الأرض التي يظن أنها "ستملأ الدنيا عدلًا بعد أن امتلأت ظلما وطغيانًا"، لتتكسّر أحلامه على صخرة الواقع بعد أشهر من وصوله إليها، وهو ما اختزلته عباراته في آخر صفحات الكتاب عندما تحدّث عن أنّ حال الموقوفين من جنود التنظيم في سجونه أنكأ من حال السلفية الجهادية الموقوفة في سجون تونس.

القراءة النقديّة لهذا الكتاب تجعل سؤالًا جوهريًّا يتبادر إلى الأذهان، ما الذي يعطي الثقة للقارئ بأنّ كلّ ما يقوله محمّد الفاهم صحيح؟

يردّ يحمد على هذا السؤال بثلاث حجج؛ أوّلها أنّ الفاهم لا يبرّئ نفسه في شيء، ثانيها أنّه يروي قصص "داعش" دونما أدنى تشويه لها وهو ما يعزز معطى بقائه مطاردًا من الأجهزة الأمنية وهذا ليس في صالحه، وثالثها وهو الأهمّ أنّه لا يرغب في العودة إلى تونس، كلّ هذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ محمّد الفاهم كان صادقًا في ما رواه.

اهتمام هادي يحمد بموضوع الجماعات الجهاديّة سردًا وتحليلًا ومبحثًا ليس بمعزل عن اهتمام أسماء مشعّة أخرى في هذا المجال، على غرار حسن أبو هنيّة أو شارل ليستر أو ديفيد تومسون، لكنّ يحمد يعد متابعيه بأنّ قادم مؤلفاته حول هذه المواضيع ستكون مفاجئة ومثيرة للجميع، وآثر ألّا يفصح عن ماهيتها الآن.

المساهمون