إنه الحادي والعشرون من نوفمبر/ تشرين الثاني إذن. يوم ميلاد السيّدة التي تحظى بكلّ هذا الاحتفاء، على غير ما نعتاده من استعادات لا تحدث للأحياء. "نتذكّر" فيروز اليوم بأغانٍ كثيرة، وبغياب أغانٍ أخرى. مثلًا، تحضر "وحدن" (لحّنها زياد الرحباني، 1979))، ويندر حضور "يا راعي القصب"؛ علمًا أن الاثنتين للشاعر نفسه؛ طلال حيدر (1937).
يرتبط حضور "وحدن" بأمرين؛ القصيدة نفسها وشفافيّة المشاهد التي تستحضرها، وما يُروى عنها من قصّة تقول إنّها كُتبت حول ثلاثة فدائيين نفّذوا عملية ضد الاحتلال الصهيوني في مستوطنة كريات شمونة في فلسطين المحتلّة.
لكن ما مدى صحّة هذه المروية؟ في عام 2010، مرّت على كاتب هذه السطور تلك القصّة؛ كانت منشورة في منتدياتٍ كثيرة، من دون وجود مصدر واحد يؤكّد ذلك. حينها، قرّرت أن أجري حوارًا مع صاحب "بيّاع الزمان"، وأسأله عنها. نفى حيدر صحّة القصة، وقال: "كتبت "وحدن" لابن البقاع، اللي بيبقى قاعد لحاله بالليل، وما بسمع شي غير صوت الديب والريح".
مجدّدًا، عادت القصّة لتنتشر، وهذه المرّة مع "توثيق" لها من خلال صفحة من جريدة "السفير" اللبنانية تتحدّث عن الفدائيين الثلاثة الذين لم تُعرف لهم هوية، ولم يُعرف شيء عن تفاصيل عمليتهم طوال المدة قبل عام 2015 الذي ظهرت فيه صورة الصحيفة. (العملية، بالمناسبة، عُرفت بـ عملية الخالصة).
إذا عُدنا إلى القصيدة نفسها، بمعزل عن الأغنية، والقصة، ودقّقنا فيها، سنجد أنّها بعيدة جدًّا عن قصّة كهذه: "ضويت ورد الليل ع كتابي.. برج الحمام مسوّر وعالي". مقطع كهذا يبدو أكثر هشاشةً من أن يُحمّل بعملية فدائية، وشرسٌ بما يكفي ليعبّر عن تلك الوحدة، وحدة ابن البقاع.
لا يبدو النّص، فعليًا، مشابهًا للقصّة. الصور والمشاهد وكل بناء القصيدة المحكية أبعد ما يكون عن فعلٍ فدائي، وأقرب ما يكون إلى حميميّة مرتبطة بمكان وحالة يتعلّقان بمشهدٍ يعرفه الشاعر جيدًا: "وحدهن وجوهن وعتم الطريق/ عم يقطعوا الغابي/ وبإيدهن متل الشتي يدقوا البكي وهني على بوابي/ يا زمان.. من عمر في العشب عالحيطان/ من قبل ما صار الشجر عالي"..
من جهةٍ أخرى، وُلد طلال حيدر في بعلبك، وغادرها عام 1948 إلى طرابلس. الجغرافيا هنا توضّح المسألة: هؤلاء الثلاثة كانوا يدخلون الغابة ويخرجون (ماذا كانوا يفعلون هناك؟). في يومٍ ما دخلوا ولم يخرجوا، ثم عرف حيدر أنّهم منفّذو العملية (1974)، فكتب القصيدة. هل ثمّة ما يربط بعلبك، أو طرابلس، أو حتّى بيروت، بالحدود اللبنانية الفلسطينية؟ القصة تقول إنه في اليوم التالي من اختفائهم عرف الشاعر بالعملية. هل يوم واحد يكفي لثلاثة مقاتلين بأن يجتازوا الطريق من بعلبك إلى شمال فلسطين؟
هل تبنّى طلال حيدر القصّة ورواها؟ أجل، فعل ذلك، في فيلم "وحدن" للمخرج الفلسطيني فجر يعقوب. لكنه، لمن يعود إلى الفيلم ويشاهده، سيلاحظ أن حيدر كان يروي القصة بوصفها أسطورةً، لا واقعة حقيقية، من دون أن يقرّ تمامًا بأن القصيدة كُتبت بهؤلاء. لكن يبدو أن الحكاية/الأسطورة راقت له. وهذا ما حاول فعله مع قصيدة أخرى.
في لقائه مع جيزال خوري في برنامج "حوار العمر" عام 1998، تحدّث حيدر عن عدّة قصائد له، من بينها "هـ الكان عندن بيت": "هـ الكان عندن بيت/ وصورة/ عليها ناس/ معلّقين بخيط/ وقعوا عن سطوح العمر/ وسْتلَقِتّن الحجار/ وِقْعوا/ متل ما بيوقع المشمش/ على ولاد الزغار/ وين أهلي؟/ وين طاحونة حزن خيي الزغير؟".
يقرأ صاحب "آن الأوان" هذا المقطع للمذيعة، ويقول: "حين كتبت هذه القصيدة، كنت أتذكّر صينيّة القشّ وشجرة المشمش وبيت علي عوض (البستنجي)"، موضّحًا أن ذلك هو البيت الذي عرفه في طفولته.
في عام 2010، أقام حيدر أمسيةً في عمّان، وقرأ فيها هذه القصيدة، قائلًا: "كتبتُ هذه القصيدة عن امرأة فلسطينية لاجئة تعرّفت إليها في لبنان".
هكذا، يتداخل الشعري مع أبعادٍ تاريخيّة واقعية/أسطورية، تحمّله أكثر ممّا يحتمل، بل وقد تزيح الشعري عن معناه الأصلي لخدمة السياسي. لكن، أليس مشهد ابن البقاع الذي يمضي ليله وحيدًا ولا يرافقه سوى صوت عواء الذئب والريح، مشهدًا ممتلئًا بما يكفي من الشعر لتكون هذه القصيدة بمثابة تخليد له؟