"هنّ المغنّيات": احتفالٌ سينمائيّ بالأوبرا

"هنّ المغنّيات": احتفالٌ سينمائيّ بالأوبرا

27 يوليو 2020
سيرغي لوزنيتسا: توليف ممتع وباهر (فيتّوريو زونينو سيلوتّو/ Getty)
+ الخط -

 

4 أفلام قصيرة لـ4 مخرجين في فيلمٍ واحد، بناءً على طلب من "دار الأوبرا" في باريس. فيها، ترتفع أصوات نساء، تستحضر بطريقتها الخاصة العالم الذي يعشن فيه.

"أولئك اللواتي يُغنّين" (ترجمة حرفية للعنوان الفرنسي Celles Qui Chantent)، اختير رسمياً لمهرجان "كانّ" غير المنعقدة دورته الـ73 في موعدها، بسبب "كورونا"، بينما عروضه التجارية الفرنسية بدأت في 8 يوليو/ تموز 2020. الفيلم "مناسبة لإسماع صوت السينما والعرض الحيّ، الوثائقي والروائي، عالم اليوم وعالم الماضي"، كما في تقديمه. "هنّ، المغنيات" (ترجمة غير حرفية للعنوان) يحتفل بالأوبرا من خلال رؤية فردية لفنّ الغناء الأوبرالي، في 75 دقيقة. أفلام متفاوتة في نوعيّتها، وأحياناً في قيمتها وإيحاءاتها ودرجة إمتاعها وأثرها. رحلة في الزمان والمكان يقودها الصوت، ويتشابك فيها الواقع بالخيال، مع بعض غموضٍ وحزن، وقليلٍ من طرافة وتلاعب. كلّ مخرج يُعبّر بطريقته عن شيء من بلد ومجتمع وعادات. فيلمان غربيّان وفيلمان شرقيّان، يتجلّى الفرق بينها في مكانة المغنّيات في عوالمهنّ، كمشهورات أو غير مشهورات، وكمعبودات أو كـ"ممنوعات".

تظهر المشهورات في "ليلة في الأوبرا"، للأوكراني سيرغي لوزنيتسا. يتوافد كبار القوم ونجومهم للاستماع إلى الديفا ماريا كالاس. تجميع فيديو من أرشيفٍ (1950 ـ 1960) يُظهر توافد أهل باريس وضيوفها، في سياراتٍ فخمة، إلى "أوبرا قصر غارنييه"، يترجّل منها شارل ديغول وبريجيت باردو والملكة إليزابيت وشاه إيران وتشارلي شابلن وغيرهم. تلاحقهم الكاميرا من لحظة وصولهم وإقامة المراسم للشخصيات السياسية، إلى ظهور النجمة ذات الصوت الفريد، واختفائها خلف الستارة بعد تصفيقٍ حماسيّ يكاد لا يهدأ. تتوقّف قليلاً عند جمهور مبتهج يحتشد في الخارج، لرؤية أشهر الناس. تدافعٌ وتعبيرٌ مُدهش عن عالمين مختلفين. لكنّ هدف الفيلم ليس هذا، بل الصوت الساحر الذي يُختَتَم به، وعالم الجمال والأناقة والابتسامات والانحناءات. لوزنيتسا لامعٌ في اختياره صُور الأرشيف، وبارعٌ في المونتاج. يُنجز عملاً فريداً، كما في "جنازة رسمية" (2019، عن جنازة ستالين)، مُمتعاً ومُبهراً بتوليفه وجمعه صُوراً تعكس وجوهاً من عالمٍ انقضى.

في موازاة مؤثّرة ومُربكة، يسير عالم "دار الأوبرا" في متاهة ممرّاته، مع عالم ممرّات مشفى لمعالجة السرطان، في "فيوليتا"، للمخرجة المسرحية الفرنسية جولي دوليكي في أول فيلمٍ سينمائي لها. هناك مغنّية تغنّي المرض في مرآة مريضة، بتوازن بين بطلة "لا ترافياتا" (1853) لغويسيبّي فيردي، وبين مُصابة بالسرطان. فيلمها مستوحى من شَبهٍ مدهش انتبهت إليه بين ممرّات "دار أوبرا الباستيل" (باريس) ومركز علاج للسرطان تتردّد عليه. بين الوثائقيّ والروائيّ، هناك متابعة لمغنية الأوبرا ألكسندرا كورزاك أثناء تحضيراتها، ثم أدائها لدور فيوليتا فيردي في مواجهتها المرض، وفي رحلتها نحو الموت. عمل مستوحى من "غادة الكاميليا" (1848) لألكسندر دوما الابن، وبين امرأة أخرى (ماغالي غودونير) تتحضّر للعلاج الكيميائي. موازاة بين امرأتين وعالمين حافلةٌ بالألم والجمال الممزوجين بالقوّة والضعف في غموضٍ متعب. فيلمٌ رائع، لعلّه الأفضل في المجموعة.

يحلّ الغناء في شكله البدائي والمقدّس مع كاهناتٍ منشدات صوفيات في الجزائر، في "ديفا (مغنّيات أوبرا) تاغرْبت" للجزائري كريم موساوي ("طبيعة الحال"، 2017)، الذي يتساءل، بعد استغرابه مسألة إهداء الصين للجزائر "دار أوبرا"، عن الأقرب إلى هذا النوع الغنائيّ في الثقافة الموسيقية الجزائرية. تُخبره صديقته عن حلقة ذكر نسائية في "تيميمون"، في التسعينيات الفائتة. يذهب إلى الصحراء مع فريق تصوير، بحثاً عن نساء يغنّين "تاغرْبت" في مغارة (كهف غورارا). يُساوره شكٌّ: هل المكان موجود فعلياً؟ هل هنّ موجودات حقاً؟ "نساء يغنّين في مغارة؟ لا بُدّ أنّه أمرٌ للسياحة"، يقول هازئاً رجلٌ من المنطقة الصحراوية. بعد بحثٍ ومواعيد لم تتحقّق، يبدو الحدث سراباً. في مشهد يُصوّر فيه موساوي فريقَه كأطيافٍ في صحراء، يتأكّد الشكّ بوجود هذا كلّه وبحدوثه، إلى أنْ يحصل اتصال هاتفي.

في مغارة وأجواء أسطورية، مع أضواء شموع ونساء وجوههنّ تبدو كأنّها آتية من ماضٍ بعيد، ونغمات متأتية من ضربٍ على الحجر، وأصوات غناء تهتزّ لها المشاعر، بدا المشهد، رغم غرابته، كأنّه روائيّ بأسلوبه، لانبثاقه من تحضير مسبق، قطع بين مَشاهد أولى وثائقية ومَشهد أخير روائي، عن مغنيات غامضات في مكانٍ سحري. "فيلم طريق" نوعاً ما، لا سيما في قسمه الأول، يلتقي مع "مخفيّ (Hidden) للإيرانيّ جعفر بناهي، الذي يذكّر بـ"3 وجوه" (2018). فيلمٌ روائي أريد له أنْ يكون وثائقياً، تختلط فيه الحقيقة بالخيال، في رحلة الذهاب للاستماع إلى فتاة كردية يمنعها أهلها من الغناء. تبحث شابة عن مغنّيات يشاركنها عملاً مسرحياً خاصاً بالنساء. تستعين ببناهي، المتعاون مع ابنته للتصوير بالهاتف المحمول، بهدف إقناع أهل فتاة في قرية كردية إيرانية بمشاركتها.

"الممنوعات" موضوعٌ أثيرٌ لبناهي، الممنوع من تحقيق الأفلام، من دون أن يحول هذا دون إنجازها. في سيناريو يبدو غير مُقنعٍ بواقعيّته، كأنّه مُركّب، يصل الثلاثة إلى القرية، ويحصلون ـ بعد محادثات قصيرة مع أهل الفتاة ـ على موافقتهم على الاستماع إلى صوتها، شرط ألا يكون هناك تصويرٌ وكشفٌ لوجهها، ما جعل الفتاة تُغنّي من وراء ستارة.

المساهمون