"من ألف إلى باء": رحلة متأخرة إلى بيروت

"من ألف إلى باء": رحلة متأخرة إلى بيروت

29 أكتوبر 2014
مقطع من ملصق الفيلم
+ الخط -

ارتأى القائمون على "مهرجان أبو ظبي السينمائي" أن يكون فيلم افتتاح دورته الثامنة إماراتياً. وقد وقع الاختيار على فيلم "من ألف إلى باء" للمخرج علي مصطفى، الذي سبق له أن نال جائزة أفضل فيلم إماراتي في "مهرجان دبي السينمائي" عن شريطه "دار الحيّ" (2009).

لكن، هل ينطوي هذا الاختيار على مجازفة، خصوصاً وأن مسابقات المهرجان والبرامج التي تقام على هامشه تحتفي بأفلام نوعية متفردة من مختلف بلدان العالم؟ لا يبدو الأمر كذلك إذا كان الهدف من كل هذا النشاط السينمائي تشجيع سينما الشباب والمغامرة معهم في مهرجان أصبح عالمياً، لا سيما وأن قصة الفيلم مرتبطة بشكل كبير بالأحداث التي شهدتها المنطقة العربية في عام 2011.

"من ألف إلى باء"، الألف من أبو ظبي والباء من بيروت. إنه طريق الرحلة التي يقوم بها ثلاثة أصدقاء، لزيارة قبر صديقهم الرابع، وفاء له وتحقيقاً لأحد أحلامه. من دون الدخول في تفاصيل الحكاية الصغيرة، يمشي الفيلم مع مسار هذه الرحلة ويعود أيضاً للدوافع خلفها والخطوط العامة التي تلزم الأصدقاء الثلاثة بالقيام بها، احتفالاً بذكرى ميلاد صديق ميت كان يتوق إلى السفر معهم من أبو ظبي إلى بيروت برّاً، لكن القدر كان في انتظاره ليختطفه من بين أيديهم.

يوسف (فهد البيتري) ورامي (شادي ألفونس) وعمر (فادي الرفاعي)، إضافة إلى هادي الصديق الميت، أصدقاء من أصول عربية مختلفة، مصري وسوري وإماراتي، جمعتهم أبو ظبي في طفولتهم، قبل أن تفرقهم سبل الحياة. كان حلم هادي أن يذهب مع أصدقائه في رحلة بريّة من أبو ظبي إلى بيروت. حاول إقناع رفاقه بذلك، إلا أنهم رفضوا الفكرة.

لذلك، قام بالمغامرة وحيداً، وذهب إلى بيروت، عام 2006، لكنه لم يعد. مات خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان. بعد 5 أعوام، أي في 2011، زمن أحداث الفيلم، سيقرر أصدقاؤه تحقيق حلمه، في مغامرة تتقاطع مع مجريات الربيع العربي التي كانت بدأت في ذلك الوقت، وتكشف، في الآن نفسه، عن حياة كلّ منهم.

تتشظّى هذه الرحلة ذات الهدف المحدد إلى أبعادٍ لم تكن مرسومة في الأذهان. فالرحلة هي استكشاف حقيقي لشخصياتهم، ورؤاهم، وعوالمهم الداخلية التي تعرّت تماماً حتى من ورقة التوت التي كانت تستر بعض العورات.

الفيلم في جانب منه هو فيلم طريق وفّر للمشاهد الكثير من المتعة وهو ينطلق (كمتلقي) من مدينة أبو ظبي، ويمرّ بالعديد من المدن والقرى السعودية، ثم يغوص في متاهة البتراء ومعالمها السياحية الأخاذة قبل أن يصل إلى سوريا، ويتوقف قليلاً عند المدينة الثائرة درعا ثم يحطّ الرِحال عند قبر الراحل هادي ليقول كل واحد من أصدقائه الثلاثة جملته المؤثرة التي تهزّ المشاعر.

إضافة إلى القصة المعقدة للفيلم، هناك هدف بصري يسعى "من ألف إلى باء" إلى إنجازه، وهو صناعة "فيلم طريق" على الطريقة الإماراتية. فهو إن كان يحمل صفة "فيلم طريق" إلا أنه لا ينتمي لأفلام الطريق المألوفة. امتدت الصورة من المدينة لتنتقل إلى صحراء أبو ظبي ثم السعودية فالأردن وسوريا، حتى تقف عند قبر الصديق في بيروت. وكأنّ التعددية في التضاريس والجغرافيا سارت كذلك بالتوازي مع التنوع في الهويات، بل كان التأكيد على استحالة العبور من أي من هذه البلدان دون المرور بالأخرى جزءاً من الحبكة.

بجانب الشخصيات الأساسيّة، تظهر على الطريق مصادفات كما يحدث في أي رحلة. فقد منح وجود الفتاتين الأجنبيتين، اللتين قصدتا البتراء، الفيلم نكهة خاصة وكسر إيقاعه العربي الذي لم يكن رتيباً أو مملاً، وعزّز العمل ومنحه شحنة إضافية إن صحّ التعبير.

وعلى أي حال، فإنّ حكايتهما الصغيرة كانت قصة جميلة داخل القصة الأكبر. أما وجود شادية، التي تعمل في أحد المقاهي، فهي تبدو لنا أولاً قصة مضافة، لكننا سرعان ما نكتشف بأن هذه الفتاة المتكتمة كانت حبيبة هادي وقد قررت العودة في خاتمة المطاف إلى درعا بصحبة الشبان الثلاثة، حيث يصادفهم الثوار ويحتجزونهم لبعض الوقت ثم يُطلقون سراحهم لاحقاً.

إضافة إلى ذلك، نكتشف أن والد عمر دبلوماسي، وأن يوسف هو أب غير متزمت أصغى إلى أشياء حرجة لا يستمع إليها الآباء في مناطقنا العربية. أما رامي فقد كذب على أمه وأخبرها بأنه مسافر إلى البحرين، ونحن نعرف منذ البداية بأنه قد ذهب مع صديقيه إلى بيروت.

تجد العديد من الأفلام الروائية طريقها إلى النجاح إذا كانت قائمة على سيناريو محبوك ورصين يروي للمُشاهد قصة سينمائية مقنعة لا يتسلل إليها الضعف أو الترهّل. والكاتب المصري محمد حفظي، الذي وضع سيناريو الشريط، هو من هذا الطراز الذي يسعى إلى الخوض في قضايا مجتمعه العربي، وهموم أبنائه الذين اختلفت أهواؤهم، وتنوعت مشاربهم الثقافية والفنية.

وفي حالة "من ألف إلى باء" قدّم حفظي تجسيداً مناسباً لهاجس المخرج الإماراتي الذي يدور حول تعدد الهويات في الإمارات وأثر ذلك على المكان والخليط الاجتماعي ومصائر البشر. هذا الهاجس اختبره مصطفى مرتين: الأولى في فيلمه "دار الحيّ" الذي تناول الهويات الأجنبية في دبي، والثاني في هذا الفيلم الذي يتناول الهوية العربية لأبو ظبي.

لم يكن الخطّ العريض للحكاية مهيمناً على مجرى الأحداث، فالثيمات الفرعية كانت هي الأخرى تغوص بكل شخصية على انفراد وتكشف لنا عن جملة من الأشياء المحجوبة أو اللامُفكر فيها، خصوصاً وأن نبرة الفيلم انتقادية لاذعة، ومناخه العام مختلط يجمع بين المأساة والجوانب الكوميدية، إضافة إلى بعض "القفشات" التي تفاجئنا بين آنٍ وآخر.

لقد قال أبطال الفيلم أشياء كثيرة خارج إطار الفكرة المهيمنة وكشفوا للمتلقين ذهنية المواطن العربي، وطريقة تفكير الأسرة العربية التي تخاف على أبنائها وتريد أن تربّيهم بالطريقة التي تعتقد أنها صحيحة ومناسبة. يظلّ أن المخرج اختار أن تدور الأحداث كلها وتتوقف في العام 2011، متجنباً بذلك الخوض في تعقيدات ما حصل لاحقاً في المنطقة، وموقفاً الزمن عند تلك اللحظة.

دلالات

المساهمون