"كتابة على الثلج" لرشيد مشهراوي: عن الداخل الفلسطيني

"كتابة على الثلج" لرشيد مشهراوي: عن الداخل الفلسطيني

19 ديسمبر 2017
عمرو واكد (Getty)
+ الخط -
يختار المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي (1962)، في جديده "كتابة على الثلج" (2017)، وحدة المكان والزمان، لسرد فصولٍ من أهوال العيش اليومي في الداخل الفلسطيني: صالة استقبال في منزل عائليّ، في ليلة واحدة من ليالي القصف الإسرائيلي على قطاع غزّة. في المقابل، يُنوِّع مشهراوي في جنسيات ممثلي الشخصيات الـ 5، التي تلتقي في ذاك المنزل: السوري غسان مسعود، والفلسطينية عرين عمري، واللبنانية يمنى مروان، والمصري عمرو واكد، والفلسطيني رمزي مقدسي.
هاتان مسألتان غير عابرتين. البناء الدرامي مُشيَّدٌ عليهما. الاشتغال البصري أيضاً. لكن، إنْ تكن وحدة المكان والزمان أهمّ في سرد الحكاية، والتقاط مناخها، وتناول أحوال ناسها، وتفكيك التركيبة النفسية لشخصياتها، ومعاينة المحيط الخارجيّ من دون تبيانٍ مباشر له؛ فإن تنويعَ جنسيات الممثلين استفادةٌ من طاقات أدائية يمتلكونها، وفقاً لخبرات ومغامرات واشتغالاتٍ عديدة، بالإضافة إلى كونه تمريناً لهم على اختبار نمطٍ من العمل السينمائيّ، وعلى امتلاك لهجةٍ فلسطينية، لن ينجح بعضهم في تلبية حاجاتها، أحياناً، علماً أن الأداء وسيلة لتجاوز هذا.
حاجة رشيد مشهراوي إلى اختزال المكان بمنزلٍ، والزمان بليلة واحدة، نابعةٌ من معطيات تظهر تباعاً في سياق السرد الحكائي: تكثيف دراميّ لنبش مكامن الخلل في العلاقات الفلسطينية الداخلية؛ تعرية نفوسٍ متناقضة الأهواء والأمزجة والمسارات الحياتية السابقة على تلك الليلة؛ إعلان موقفٍ ثقافي وإنساني وأخلاقي، يتمثّل بنبذ التزمّت في الالتزام الديني، وبمواجهة التسلّط القمعي لفردٍ على الجماعة، وبرفض التفاوت المتنوّع بين الناس، في مستويات العيش عامة، لكن أيضاً وأساساً على مستوى الارتباط بالهوية والكفاح والبلد.
فشخصية المناضل المتزمّت دينياً (واكد) تفرض (بل تحاول أن تفرض) على الباقين سلوكاً يتلاءم وأهواءها والتزامها الديني والسياسي والاجتماعي، ما يجعل هؤلاء الباقين في مواقع مختلفة، أبرزها الدفاع الهادئ عن حقوقٍ أساسية في السلوك والعيش والعلاقات، خصوصاً أن صاحب المنزل (مسعود) مناضلٌ سابقٌ يرفض رفضاً قاطعاً تعريض فلسطيني للقتل بسلاحٍ إسرائيلي، رغم حدّة الصدام بينه وبين المناضل الفلسطيني المتزمّت. كما أن زوجة صاحب المنزل (عمري) مؤمنة تمارس طقوسها بهدوء وعزلة، وتنفضّ على ضجيجٍ يُحدثه المناضل نفسه، بخصوص قواعد سلوك وتصرّف وملبس، يُريد فرضها على المُسعفة (مروان)، التي تمتلك، بدورها، اختباراً حياتياً يضعها في مصاف راقية في الاجتماع والعلاقات. في حين أن المُصاب (مقدسي) يُثير شكوك المناضل المتزمّت والمتوتر، قبل أن يُفصح عن سبب مجيئه إلى تلك الناحية في لحظة صراع متجدّد مع المحتلّ: البحث عن هدية لابنته.
تناقضات الحالة العامة داخل المنزل متأتية من تناقضات المجتمع الفلسطيني. المحاولة السينمائية الجديدة لرشيد مشهراوي منطلقة من رغبة في قراءة الآنيّ، في ظلّ كثرة الخيبات والانشقاقات والتمزّقات. الصراع بين سلطتي غزّة ورام الله منعكسةٌ داخل المنزل، والمنزل صورة مصغّرة لفلسطين المحتلّة. الموقف الرافض للتعنّت والتزمّت والسطوة والسعي الدائم إلى سيطرة فردٍ على جماعة، يُقابله تأكيدٌ على أولوية الهمّ الفلسطيني بالنسبة إلى مناضل سابق، يكترث حالياً بإصلاح الساعات، وبكلامٍ يتلاعب فيه بلغة الزمن وإشاراته وانعكاساته. فالنضج مطلبٌ لشبابٍ تائهين في حُطام راهنٍ، وفي تغييب ذاكرة، وفي هذيان التسلّط والاستيلاء والنبذ والرفض.
التساؤلات المطروحة كثيرة، تبدأ بإعادة وضع الهوية والانتماء في أولوية السجال، من دون أن تتغاضى عن أولوية أخرى، لن تقلّ أهمية عنها: العلاقات الإنسانية بين الأفراد، والنظرة إلى الذات والآخر، والبحث عن المشترك بين المختلفين. هذا كلّه حاضرٌ في مسام النصّ والحوارات، وبعض الحوارات غير قادرٌ على امتلاك حيوية المُعاش في عتمة المنزل، وعلى أصوات قصفٍ وحقدٍ وخراب. هذا كلّه موجودٌ في تصرّف أو قول أو نقاش أو تعليق أو نظرة أو ملمح، وبعض هذه المسائل محتاجٌ إلى عمقٍ دراميّ أكبر في التعبير عنه، رغم أداءٍ يتنافس على جمالياته ممثلون منتمون إلى اختباراتٍ مختلفة.
يُحدِّد التعريف الرسمي بـ "كتابة على الثلج" عوامل عديدة، "تحول دون تضامن" الشخصيات الـ 5، وتُضعف المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي: انقسامات سياسية واجتماعية، وتعصّب ديني، وعدم قبول الآخر رغم الاختلاف. هذا واضح في المتتاليات البصرية، التي تبدأ لحظة دخول المُسعفة والمُصاب، رفقة مدنيّ متوتر، منزل مُصلِّح الساعات وزوجته، والتي تنتهي بخروجٍ شبه آمن من منزل يكاد يتهاوى على الجميع، لشدّة العنف الإسرائيلي، ولحدّة التجاذبات الداخلية. هذا مباشر، غالباً، في كتابةٍ تقول الأمور كما هي، وتُقدِّم الحالات كما هي، وترسم الوقائع كما هي.
جديد رشيد مشهراوي خطوة إضافية في طريقٍ مليئة بالتحدّيات، التي يواجهها السينمائيّ بكاميراه، في مسار مهنيّ يمتدّ على نحو 30 عاماً من الاشتغال المتنوّع.




المساهمون