"على راسي يا معلّم"

"على راسي يا معلّم"

28 ابريل 2015
+ الخط -
كم كان الكوب أنيقًا حين وقعت عيني عليه في المعرض، خطوط وألوان غاية في التناسق كامرأة شرقية تحاول أن تكون متميّزة في بلاد ما وراء المادة. وقفت أمامه متأمّلاً وكأنني سأشرب فيه قوس قزح، ولكن ما أحمقني، وهل أريده إلا لأشرب فيه أي مشروب ساخن؟ هذا قادني على الفور إلى تذكّره فجأة، نعم نزار هذا الشاب السوري الذي بقي شابًا يضجّ بالحيوية في ظلّ هذا الخريف القاسي.

كان نزار ذلك الجار الذي يحاول أن يواجه الحياة الصعبة بصعوبة أكبر منها، صعوبة كانت مقرونة بمهنة الفارس في العصور الوسطى حين كان يحاول النبل والشرف في زمنٍ غبي، ولكن هل تعرفون ما الفرق بينه وبين الذي لم يستطع الهروب من الجحيم؟ 

إن السوري الذي في الوطن، حُكم عليه بالموت فعلًا فهو ميت، وإن كان بوعيه وقلبه. أمّا الذي في الخارج، فهو كالذي يفرّ من سهم الموت الذي بات قريبًا جدًا ككل طريد في بلاد الله، دائمًا يركض من كلّ شيء ولأي شيء. 

ما أجمل الكوب فعلًا، وخاصة تلك الجملة التي حُفرت في مادته حتى لا يطمسه الزمان "الترللّي". شاي السوري جميل، وبالتأكيد سيكون أجمل حين يستقرّ في جوف هذا الكوب العميق جدًا، كنفس ملّت الانتظار في ساحة الحبّ غير المنصف، بل ذلك الجبّ المظلم.
 
هل تعرفون ماذا كُتب على هذا الكوب الخزفي الأنيق؟ 
كُتب بالخط العريض الأبيض، جملة سنحاول أن نتشدّق بها لنكوّن مجتمعًا أولًا وليس ثالثًا كما نحن الآن: "حقوق الإنسان". 

نعم "حقوق الإنسان". وبالطبع لم يكن يعرف نزار، فلم أخبره بشيء عن تفاصيل الهدية. وكلّ ما قلته له إنني أحمل لك هدية، فلا تذهب هذا المساء إلى أي مكان، لعلّنا نشرب الشاي سوية بهدوء من دون حاجة إلى عملية "اشرب أنت أولًا، فقد شربت قبلك". لكنني أثق تمامًا أنه لو عرف الجملة المكتوبة، لرفضها أو لملأها خمرًا، حتّى ننسى معًا ما حصل لعروبتنا الحزينة.
 
دخلت سريعًا إلى بيتنا المشترك، كهمّنا العربي الواحد ومصيرنا الهلامي الذي لم يكتفِ بأن يكون سوداويًا، رغم ظلال الأبيض والرمادي المتلاحقة والمتعاشقة فيه كنوع من التخفيف أو التخدير الموضعي، لنستطيع إكمال رحلتنا في الحياة، ولكن ككلّ تاريخنا، لا بدّ أن يحدث شيء، فما أن مررت من عتبة البيت، حتّى سقط الكوب مكسورًا مئة قطعة وقطعة. في ظرف ثانية، هوى كلّ شيء كواقعنا المتشظّي أو قلْ كخريطة سايكس بيكو الجديدة المعلّقة على بوابة المشرق، ويحاولون تطبيقها على جسدنا المهترئ والمتعب، الذي لم يبقَ فيه، بصحيح العبارة، ما يُقسّم، سوى بضع قلوب، فيها ذلك الدم المقدّس الرافض للذلّ، وبضع قطع أثرية لم تكسرها عوامل التعرية. لم أرها وهي تسقط، كعادة الألم نشعر به فقط ولا نراه، ولكني كنتُ أشعر أنني لن أصل إلى خط النهاية. لا أعرف لماذا بادرني هذا الشعور.

ولكن لقناعاتي دائمًا أن لحظات الفرح تسبقها لحظات مملوءة بالخوف والتوجّس من مصير لا يعرف أحد نهايته، لحظات قلق ألا يكتمل قرص السعادة الذهبي في أفق الواقع. ولكن لماذا كلّ هذا التعجّب؟ فالكون يحارب الحبّ كناموسٍ أزلي، فمن الطبيعي أن يحارب الفرح والحبّ، أحد أبنائه المدلّلين، بل ويحارب كلّ ما يدخل إنسان القرن الواحد والعشرين إلى مربع البهجة والسرور، حتّى ولو كانت مصطنعة وهمية.

صعدت سريعًا محاولًا تجنّب رؤية صديقي السوري. يكفي السوريين وهمُ الوعود التي يعيشون فيها من قبل الساسة، وكلّ تجّار القضية. 

اتصل بي وأصرّ على اللقاء. فبادرته فورًا حين رأيته بالحقيقة التي نختفي وراءها. فما كان منه إلا أن قال: "نعم هادا الكوب الذي بأسفل العمارة المكسور... شفته، على راسي يا معلّم". 
تعجّبت من صنيعه ولكن فعلًا "على راسي" أنا أيضًا. 


المساهمون