"ساحة ساسين" التي أحرقت راية "داعش"

"ساحة ساسين" التي أحرقت راية "داعش"

05 سبتمبر 2014
ساحة ساسين - بيروت / تصوير: حسين بيضون
+ الخط -

مجدّداً، برز في الأيام الأخيرة اسم "ساحة ساسين" في بيروت، عقب قيام شبّان مسيحيين لبنانيين، من أهل المنطقة، بإحراق علم تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش). وما كان أولئك الشبان ليتجرؤوا على فعلتهم هذه لولا شعورهم بمناعة تمنحهم إياها تلك الساحة، قلب منطقة الأشرفية. فهنا، عند قمة "الجبل الصغير"، كما تسمّى الأشرفية، في القسم الشرقي من بيروت، يصفو الحضور المسيحي في العاصمة اللبنانية، حضور لا يخلو من الكبرياء.
الساحة يتوسطها النصب التذكاري لـ"شهداء" الأشرفية في الحرب اللبنانية، ومجسم لبشير الجميل قائد الميليشيات المسيحية، التي خاضت "حرب المائة يوم" ضد الجيش السوري، وطردته من مناطقها.. وغالباً ما تكون منطلقاً للحملات الانتخابية، ومركزاً للاحتفالات الحزبية، أو المناسبات الدينية. هي ساحة السياسة في حرب الرموز والجغرافيا والديمغرافيا. هنا ترتفع على طول مبنى من ستة طوابق صورة المطرانين السوريين المخطوفين، بولس اليازجي ويوحنا ابراهيم، طلباً لإطلاق سراحهما. فكأن الساحة هي أيضاً منبر لمسيحيي الشرق، ما دامت الفضاء الخاص للوجود المسيحي القوي والممتلئ بالعنفوان، الذي يشعر به مسيحيو لبنان. هنا أيضاً يتوضح نمط العيش الذي يرسمه مسيحيو لبنان لأنفسهم، ساحة لزينة عيد الميلاد، وللمواكب الكشفية، ولزياح (طواف) عيد انتقال السيدة العذراء، أو حتى لاحتفالات عيد الجيش، الذي يشعر المسيحيون اللبنانيون أنه مؤسستهم الحامية. هنا "الوسط التجاري" الخاص بهم في بيروت، الذي ازدهر في زمن الحرب، حين انقسمت العاصمة إلى "غربية" بأغلبية مسلمة و"شرقية" بأغلبية مسيحية، وتحول الوسط التجاري للمدينة إلى خرائب مهجورة وخطوط تماس قتالية.
هنا، يقام سنوياً مهرجان "عيش الأشرفية" السياحي التسويقي والفني، بوصفه مناسبة أخرى لسعي السكان إلى توكيد كل العلامات والرموز التي تحفظ خصوصية منطقتهم تمايزاً عن بقية أجزاء العاصمة. فكما أن ضاحية بيروت الجنوبية، بأغلبيتها الشيعية تقيم مسيراتها العاشورائية وتظاهراتها التي ينظمها حزب الله، أو كما يحلو لأهل "الطريق الجديدة" أن يحتفلوا بمناسباتهم الإسلامية ومهرجاناتهم السياسية ويزينوا طرقاتهم بصور زعمائهم، يعمد مسيحيو بيروت في جبلهم الصغير هذا، إلى توليد الصور والفاعليات والمناسبات التي تصنع هوية للمكان.
الشبان الذي أحرقوا راية "داعش"، ما كان لهم أن يفعلوا ذلك لولا شعورهم أنهم في بيئة حاضنة ومنيعة، وقادرة على التحدي، وأنهم في ساحة الأهل، لا في مجرد فضاء عمومي غفل. إنها ساحتهم الخاصة التي تتيح لهم التعبير عن العصبية التي يعتصمون بها ويستنفرونها الآن، بوجه التهديد الوجودي الذي يطال مسيحيي الشرق. هذا ما لا يتوفر لأقرانهم في بغداد أو الموصل أو دير الزور والرقة.
في فبراير/شباط عام 2005، لم تجد المخابرات السورية وشبيحتها وسيلة لتخويف اللبنانيين، من التمرد على سلطتها، إبان اشتعال الغضب العارم عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، سوى تنظيم "غارة" بسيارات مليئة بالمسلحين على ساحة ساسين، بوصفها المكان التقليدي العنيد الذي يحتضن الاعتراض الدائم على الاحتلال السوري. كان فشل ذاك الاختبار الترهيبي إيذاناً لا رجوع عنه بانكسار حاجز الخوف، مما شجع أهل بيروت جميعهم على الخروج ضد سلطة الوصاية آنذاك.
أيضاً، عندما قرر حزب الله الاستيلاء على بيروت واجتياحها عسكرياً في مايو/أيار 2008، تجنب تماماً الاقتراب من الأشرفية وفضل عدم الدخول إلى ساحة ساسين، تحسباً منه لأي عواقب خطيرة، أقلها اندلاع حرب أهلية شاملة مجدداً. ظلت هي المنطقة الوحيدة العصية على هيمنة الحزب، وإليها التجأ يومذاك الناشطون والإعلاميون والمثقفون الذين طاردهم "حزب الله" في شوارع بيروت الغربية، بسبب انحيازهم وأدوارهم السياسية المعارضة.
وإذا كان شارع الحمرا وجواره (منطقة رأس بيروت) فضاء عاماً ومدينياً ومختلطاً، وخارج التجمعات الأهلية المتراصة والصافية في هوياتها الطائفية، فإن ساحة ساسين بالمقابل ظلت على الرغم من مظاهرها المدينية وأدوارها التجارية ورحابتها كمطرح للتلاقي والتواصل والانفتاح، فضاء أهلياً معتصباً لهويته. هي آخر مكان في بيروت يشهد على المركزية التاريخية للحضور المسيحي في بناء بيروت الحديثة، وتشكيل صورتها، بوصفها عاصمة التنوع والحريات. هذا ما دفع رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة إلى أن يخطب يوم الأحد الفائت بالقرب من ساحة ساسين، قائلاً: "أنا المسلم اللبناني والعروبي لا أجد أي قاسم مشترك ولا شيء يجمعني مع أولئك الطغاة المستبدين، ولا مع الإرهابيين، ولا مع أولئك الذين يتخذون من الإسلام شعاراً يرتكبون تحت لوائه جرائمهم البشعة (...) وأنا أجد نفسي معكم أنتم المجتمعون اليوم هنا في الأشرفية في بيروت، الأقرب إلى نهج تفكيري...".
عدا سكانها الأصليين، على سفح الأشرفية يستوطن المهاجرون الفقراء السريان والكلدان، السوريون والعراقيون، الذي جاؤوا قبل عقود. أسفل "الجبل الصغير" يستوطن المهاجرون الأرمن الذي هربوا من المذابح العثمانية قبل مائة عام، وفي الأحياء الراقية استوطن مسيحيو حلب ودمشق الذين هربوا بثرواتهم من التأميم الناصري والبعثي، وفي أنحائها يسكن الشبان والشابات الذين يطلبون حريتهم الفردية وخصوصية العيش بلا رقابة الأهل. هي "الملجأ" الذي لا يخلو من الأبهة أيضاً.
بهذا المعنى، ساحة ساسين هي الآن تستأنف دوراً سياسياً رمزياً، فلا يكون حرق علم "داعش" مجرد فعل طائش أقدمت عليه حفنة من الشبان الغاضبين. 

 

دلالات

المساهمون