"تعدّدية قطبية" جديدة في غزة

14 مايو 2019
+ الخط -
منذ واقعة الانقسام المشؤوم قبل أزيد من اثنتي عشرة سنة، وإلى وقت غير بعيد، ظلت حركة حماس رب البيت في غزة، الآمرة الناهية وحدها، صاحبة اليد العليا، لها الكلمة الأخيرة، وعندها القول الفصل، القاضي والشرطي والجلاد، فبدت في فضاء القطاع المحاصر وكأنها الدولة العظمى الوحيدة، بالمعايير الغزّية، تماماً على نحو ما بدت عليه الولايات المتحدة غداة انتهاء الحرب الباردة في مطالع تسعينات القرن الماضي.
ومع أن سلطة الأمر الواقع في غزة بقيت، على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية، محاصرة سياسياً، معزولة وغير معترفٍ بها عربياً ودولياً، معسرة وتحت التهديد والضغط الإسرائيلي المتواصل، إلا أن أحداً لم ينازعها مقاليد إدارة مهاجع السجن المقام في الهواء الطلق، أو ينافسها على التحكّم بشؤون وشجون نحو مليوني إنسان، حياتهم لا تشبه الحياة أبداً، بل وسلّمت الأطراف المعنية بمركزية "حماس" في "العالم الغزّي" المثقل بالبؤس والبأس. صحيحٌ أنه كان هناك بعض المنغصات، وكانت هناك أيضاً مناكفات كثيرة، إلا أن الوزن السياسي والعسكري الراجح لحركة حماس كان يضبط إيقاع اللعبة الداخلية في القطاع، ويحكم وتيرتها. إذ باستثناء معارضة "فتح" المصادرة، انتظم المشهد الغزّي على النحو الذي أرادته "حماس"، إذ سلّمت بقية الفصائل بالحقيقة السياسية القائمة مكرهة، وارتضت اللعب في نطاق الهوامش الضيقة المتاحة، ولو على مضض، ما دام الأخ الأكبر ممسكاً بقرار "الحرب والسلام"، ناهيك عن مسارات التصعيد والتهدئة والمسيرات. وسط هذه الصورة البانورامية المتجلية ملء البصر والسمع، كان يتكون تحت السطح، بتؤدةٍ وصمتٍ وصبر، فاعل فلسطيني جديد، راح يراكم عناصر قوةٍ ويبني عليها، ويقتطع لنفسه قسطاً متزايداً من الحضور والأهلية، وحصة متواضعة من الكعكة الغزّية (هل قلنا كعكة؟)، ونعني به الشقيق الأصغر لـ"حماس"، حركة الجهاد الإسلامي، المصنفة فصيلاً ثانياً من حيث الفاعلية العسكرية، والمعروفة بزُهدها في السلطة، وبنأيها عن الانخراط في دهاليز السياسة العفنة.
لم تطرح "الجهاد الإسلامي" نفسها، في أي يوم مضى، بديلاً لأي من السلطتين القائمتين في رام الله وغزة، المتورّطتين، كل على طريقتها، في اللعبة التفاوضية الكريهة، كما ظلت هذه الحركة المجاهدة تتعفّف عن المشاركة في الانتخابات، ولم تُبد استعدادا لتحمّل أي مسؤولية مدنية، إدارية أو مالية، تخص حياة الناس، سيما وأنها تقدّم نفسها منظمة عسكرية ذات طهارة ثورية خالصة، أو قل فصيلاً مقاوماً ليس له برنامج اجتماعي، أو رؤية سياسية تتعدّى تحرير فلسطين، كل فلسطين، من دون مساومة.
منذ انطلاق مسيرات كسر الحصار، وربما منذ تولي زياد النخالة قيادة "الجهاد"، بدأت هذه الحركة، وثيقة الصلة بإيران، تنتقل تدريجياً من هامش الهامش السياسي إلى قلب الحلبة الغزّية، ثم أخذت تقطع لنفسها مكانة أرفع في المشهد العام، عبر أداء عسكري لافت في كل المواجهات المتعاقبة، وشرعت في تعزيز دورها شريكا فاعلا في قرار الحرب والتهدئة، فيما كفّ الوسيط المصري، مثلاً، عن إجراء مداولات وقف النار مع حركة حماس فقط، فراح، في كل مرة، يستضيف الحركتين الإسلاميتين معاً، وهو ما شكل أول اعتراف ضمني بثنائية القيادة في غزة.
في الجولة الأخيرة، برزت حركة الجهاد، أكثر من أي يوم مضى، لاعباً رئيساً في فضاء القطاع المحاصر، وأصبحت بفعل صواريخها الثقيلة (قيل إن لديها نحو ثمانية آلاف صاروخ) مفاوضاً يُحسب له الحساب، في قرار التصعيد والتهدئة، جنباً إلى جنب مع "حماس" التي تمتلك نحو خمسة آلاف صاروخ. ولعل اتهامات قادة الاحتلال حركة الجهاد بالمسؤولية عن إشعال الجولة العاشرة، بل وجرّ شقيقتها الكبرى إلى الحرب من دون رغبة منها، ما يشير إلى مغزى التحول الجاري في غزة.
بدت "الجهاد"، عقب المواجهة الأخيرة، أشد بأساً، أعلى صوتاً، وأقل التزاماً بقواعد اللعبة الدارجة، إن لم نقل إنها باتت أرفع شأناً، وأرجح وزناً من ذي قبل، وأمضى فعلاً، الأمر الذي يسحب البساط من تحت أقدام "حماس" كصاحبة قرار مطلق في القطاع، وقد يفقدها صفة "الممثل الشرعي الوحيد" في غزة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي