"القوة الناعمة"... أداة الاحتلال لكسب قلوب المقدسيين وعقولهم

09 ابريل 2015
نزع القضية من إطارها الاستعماري الهدف الرئيسي للاحتلال (الأناضول)
+ الخط -
بعد المواجهات الحادّة مع قوات الاحتلال في القدس المحتلة منتصف العام الماضي، دار النقاش الإسرائيلي حول رؤيتين إسرائيليتين للإجابة عن السّؤال المُلِحّ: "كيف نعيد الهدوء للقدس؟". هاتان الرؤيتان ليستا بالضرورة منفصلتين من حيث المنطق والتطبيق، بل هما أشبه بسياسة العصا والجزرة.

اقرأ أيضاً (قطار سياحي يسهّل اقتحام المستوطنين للأقصى)

تشجع الرؤية الأولى على استخدام مختلف أساليب القوّة العنيفة كحل يقضي على المواجهات مع المقدسيين. "هؤلاء صبية صغار مدفوعون من قبل بعض التنظيمات الفلسطينية، نخيفهم بالأسلحة وبمزيد من العقوبات، أي نرد العنف بالعنف"، بحسب التعبير الإسرائيلي. وبناء عليه، ازداد التواجد الشرطي الإسرائيلي في الأحياء الفلسطينية، وتكثّف استخدام الأسلحة في مواجهة أجساد المقدسيين، إضافة إلى أوامر الإبعاد العسكرية لعدد من النشطاء المجتمعيين والسياسيين إلى خارج القدس المحتلة، والدفع نحو هدم بيوت منفّذي العمليات الفدائية. 
وصدرت أيضاً الدعوات إلى تشديد العقوبة القانونية على راشقي الحجارة والزجاجات الحارقة.

وترافق ذلك مع التهديد بمعاقبة الأهالي وتحويل أي ملف أمنيّ لطفل معتقل إلى يد بلدية الاحتلال للبحث عن أي مخالفة بناء أو ديون بلدية متراكمة على والده، في سعي واضح لتحويل السلطة الأبويّة داخل الأسرة إلى جهاز شرطي استعماري.

القوة الناعمة

أما الرؤية الثانية، وهي الأخطر والأطول مدىً، فترى أنه ليس بإمكان "القوة العنيفة" أن تُوقف عمليات الفلسطينيين واحتجاجاتهم. يمكن أن تردع لبعض الوقت، لكنها لا تحلّ الأمر من جذوره "قد تهدم بيت منفذ عملية الدهس، ولكنك لن تمنع جاره من تنفيذ عملية مشابهة"، كما تقول التقديرات الإسرائيلية. لهذا جرى طرح مشاريع إسرائيلية ذات ملامح "ناعمة وخفية" لتفعيل القوّة.

يندرج تحت هذا الطرح الجهود الحثيثة لاستمالة المقدسيين وكسب أفئدتهم وعقولهم تدريجياً كي تصبح مؤسسات الاحتلال المختلفة هي عنوانهم الأول. فالمقدسيون وحيدون في الميدان، لا يملكون بين أيديهم رؤية تنموية مستقلة عن أجهزة السلطة الاستعمارية الإسرائيلية، ولا تقدّم لهم الحركة الوطنية الفلسطينية أي رؤية أو سياسة مجتمعة تحريرية جادّة تغنيهم عن الارتباط بمؤسسات الاحتلال.

وتستغل هذه الأخيرة، وفي مقدّمتها بلدية الاحتلال، الأمر، فتطرح نفسها الحضن الوحيد الذي يمكن أن يضمن للمقدسيين "النجاح والتقدم في حياتهم". يرتبط تعريف هذا "النجاح" بنزع التسييس من خطاب المقدسيين وتحويله إلى خطاب حقوقي بحت، لا يسعى إلى التحرر من الاستعمار بدرجة أولى، وإنما يسعى في حدّه الأعلى إلى تحسين ظروف الحياة المعيشية من صحة وتعليم وفرص عمل وغيرها، ومحاربة "التمييز في الميزانيات بين شرقي القدس وغربها".

وقد عبّر رئيس بلدية الاحتلال، نير بركات، عن هذه الرؤية في أكثر من مناسبة، كان آخرها في مؤتمر معهد الأمن القومي الإسرائيلي في فبراير/شباط الماضي، قائلاً إنه "سعيد لأن الطريقة التي يحتجّ فيها المقدسيون على نقص الصفوف المدرسية في أحيائهم هي الاعتصام أمام مبنى البلدية"، مفسراً ذلك بالقول "إنهم يرون فينا العنوان".

يتساءل بركات "أين بالضبط تظنون أن سكان شرقي القدس يريدون أن يكونوا؟ يريدون أن يروا أنفسهم مقدسيين، يريدون أن ينجحوا، يريدون تربية جيدة لأولادهم، يريدون مستشفى متقدماً وذا مستوى، يريدون فرص عمل وجودة حياة. وتماماً حول هذه القضايا، نحن مشغولون معهم، على الوجه الأكثر عملية".

ليس هذا فعلياً ما يريده المقدسيون، إنما ما تريد البلدية أن يتوهموه، وأن يبنوا حوله جوهر وجودهم، على هذا الحيز الحساس من أرض فلسطين. يمكن وفق هذه الرؤية للمقدسي أن يعترض على شارع غير مؤهل أمام بيته، هذا محبذ ومحمود، أما السياسة فهو أضعف من ممارستها، فليكن "عملياً وواقعياً" وينشغل بحياته اليومية، وبهذا يضمن "النجاح".

البحث عن الوسيط

بناء على هذه الرؤى الإسرائيلية، كان لا بدّ من خلق مؤسسات وشخصيات مقدسية لتقوم بدور الوسيط أمام مجتمعها. وخلال تأدية هذا الدور يحصد هؤلاء منافع شخصية مقابل التخلي عن مبادئ وطنية، أو في حالات أخرى يعملون على إعادة تعريف للوطنية باعتبارها "تحسيناً للظروف المعيشية" لا أكثر. وفي أضعف الإيمان تتعذر تلك الشخصيات بضعفها وعدم قدرتها على الرفض نتيجة الضغوط المعيشية.

ليست تلك التحركات الإسرائيلية بجديدة؛ هي سياسة قديمة رافقت تاريخ الاستعمار، غير أن تطورات الأوضاع وتغيير وسائل التأثير وتبدل المصالح أحياناً تستدعي أن تقوم سلطات الاحتلال بالبحث عن وجوه جديدة، وتوسيع وفتح آفاق جديدة مع من "يطبلون لها"، ويقومون بدور "العربي الجيد"، كما يرونه.

أما أهم هذه الشخصيات التي يسعى الاحتلال لتوظيفها، فهم مديرو المدارس ورؤساء المراكز الجماهيرية والتجار والمخاتير. وبهدف تعزيز العلاقات القائمة وإيجاد فرص لعلاقات جديدة،  قام بركات في أواخر العام الماضي بعدة جولات في الطور وجبل المكبر وشعفاط وصور باهر، شملت جولات على المدارس والأسواق التجارية بشكل خاصّ.

في يناير/كانون الثاني الماضي زار قائد لواء القدس في شرطة الاحتلال برفقة بركات إحدى مدارس القدس المحتلة التي شهدت نسبة عالية من اعتقالات الطلاب، بهدف "طرح المواضيع ذات الاهتمام المشترك كأعمال الإخلال بالنظام والعمل الدوري الحثيث والتعاون على مكافحتها ومواجهتها"، بحسب بيان الشّرطة.

وفي ضوء التركيز على المدارس ومديريها، أطالت مدارس البلدية في الأحياء التي اعتادت المواجهات كرأس العامود وشعفاط، اليوم المدرسي حتى الساعة السادسة مساءً، يشمل ذلك دورات تصوير وفن ورياضة وغيرها، بميزانية تصل إلى 2 مليون شيكل. عبر هذه الطريقة، تريد سلطات الاحتلال منع رشق الحجارة على شرطتها ومستوطنيها، فتشغل الطلاب ببرنامج دراسي طويل، تفصح أحياناً عن نيته الحقيقة، بينما تدعي أحياناً أخرى أنه جاء لتعويض التأخر في إنجاز مواد المنهاج الدراسي.
 
وبموازاة إشغال الطلاب، عملت سلطات الاحتلال على تحريف المنهج الدراسي، بحيث رصدت بلدية الاحتلال لعام 2015 ستة ملايين شيكل لطباعة المنهاج المحرّف وتوزيعه على المدارس.

لسان عربي

وفي محاولة بلدية الاحتلال الترويج لنفسها بين المقدسيين كجهاز "يعمل لأجلهم ويجتهد لخدمتهم وراحتهم"، أنشأت في خريف 2014، صفحة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بالعربية خاصّة لرئيس البلدية، تنقل أخباره وتحركات بلديته وعملها في الأحياء الفلسطينية. وفي دعاية رخيصة لا تنطلي على المقدسي "ابن البلد"، تنشر الصفحة في أحد منشوراتها الأولى صور لطواقم البلدية ينظفون أحد أزقة البلدة القديمة للقدس المحتلة، مرفقة بتعليق أن هذا العمل يسهل "وصول المصلين المسلمين لأداء الصلاة في المسجد الأقصى". بينما لم تتوان شرطة الاحتلال خلال تلك الفترة عن منع المصلّين وتحديد أعمارهم.

وفي دلالة على جدية هذا التوجه من قبل البلدية، استحدثت وظيفة جديدة تتبع مباشرة لمكتب رئيس البلدية، تحت اسم "مساعد مستشار رئيس البلدية لشؤون شرقي القدس". ينشغل الموظف الإسرائيلي الذي يشغل هذا المنصب بالتواصل مع بعض وسائل الإعلام الفلسطينية في محاولة لضمان حيز في مواقعهم أو صحفهم لأخبار البلدية ونشاطاتها، لضمان الوصول لمختلف شرائح المقدسيين وبثّ الدعاية الإسرائيلية.

وقد دعا رئيس بلدية الاحتلال عدداً من الصحافيين الفلسطينيين مع مراسلين أجانب وإسرائيليين إلى مؤتمر صحافي في فبراير/شباط الماضي للحديث عن الميزانيات الجديدة التي تخصص لشرقي القدس المحتلة بشكل خاصّ، وسط تسويق لها أنها "لصالح العرب". وفي حين يعتبر مثل هذا اللقاء "محرماً وطنياً" في رؤية المجتمع المقدسي الوطني، شارك 3 صحافيين مقدسيين فيه.

المراكز الجماهيرية

المراكز الجماهيرية، هي مراكز "مجتمعية" تتوزّع في القدس المحتلة حسب تقسيماتها الجغرافية والديمغرافية، وتتبع بشكل مشترك لبلدية الاحتلال ولشركة إسرائيلية خاصة، ويقول الإسرائيليون إنّ هدفها تخفيف ضغط العمل على البلدية. وبطبيعة السياق الاستعماري الذي تعيشه المدينة لا يمكن فصل "الطابع المجتمعي" عن الدور السياسي، ففي نهاية المطاف من وظائف المركز الجماهيري تمثيل المقدسيين أمام جهاز استعماري هو البلدية، وهو في الوقت نفسه ذراع محليّة لها.

يوجد في شرقي القدس 8 مراكز جماهيرية، وبينما يرفض مدير إحداها أن يكون ممثلاً لسياسات البلدية أمام الفلسطينيين كما يزعم، يحاول مدير آخر تولى منصبه العام الماضي إثبات "صدقه" ونواياه أمام الاحتلال، ولا يخجل من القول إنه يريد منع الشبان من إلقاء الحجارة، وطريقته في ذلك أن "يصطحبهم إلى مركز التوقيف الإسرائيلي ليروا نهايتهم في حال سلكوا هذا الطريق". ويفخر بأن بلدية الاحتلال وجدت فيه "مديراً حكيماً وجيداً يعرف كيف يطالب بحقوقه ويخدم أبناء بلده".

وفي تعبير واضح وصريح عن دور هذه المراكز الجماهيرية، اشتكى أحدهم من ضعف ميزانية النشاطات اللامنهجية للفتية في مركز جماهيري في حي فلسطيني قلما يشهد مواجهات مع الاحتلال. ردّ عليه أحد الموظفين الإسرائيليين في البلدية "إذا أصبح أولادكم يلقون الحجارة ستأتيكم الأموال". بمعنى آخر أن "النشاطات هنا لإخماد الغضب في مواجهة الاحتلال".

وقد بدأت بعض المراكز الجماهيرية بتلقي ميزانيات وبرامج جديدة تستهدف الفتية بشكل خاص تصل إلى نحو 357 ألف دولار للعام 2015. تشمل هذه البرامج تأسيس فرق طوارئ وفرق رياضية، وتنظيم أيام عمل تطوعية وغيرها في محاولة لتأطير أي نشاط مجتمعي تطوعي وربطه بالبلدية وبميزانياتها فحسب. ولا ينفي أحد المصادر المحلية المقربة من هذه الدوائر احتمال تنظيم نشاطات ذات طابع تطبيعي يلتقي فيها طلاب فلسطينيون بآخرين إسرائيليين. يؤكد المصدر نفسه، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، أنه في بعض المراكز الجماهيرية تم استحداث وظائف جديدة لتنفيذ هذه البرامج ومحاولة تحسين صورة البلدية أمام الناس.

ولا ينفي مدير أحد المراكز الجماهيرية في شرقي القدس المحتلة، أنه تلقى اتصالات متكررة من شرطة الاحتلال فور استشهاد أبو خضير للطلب منه أن "يساعدهم في تهدئة الشارع"، ولكنه يقول إنه لم يتجاوب معها.

بموازاة ذلك، علمت "العربي الجديد" أن قسم الإرشاد الجماهيري في بلدية الاحتلال توجّه إلى العمال الجماهيريين الفلسطينيين في هذه المراكز مع بداية المواجهات في يوليو/تموز الماضي للضغط عليهم باتجاه ما يسمونه "تهدئة الناس والتخفيف من غضبهم". تلخص تكتيكات الاحتلال أعلاه ما يقع ضمن سياسة "الجزرة" لردع المقدسيين وتشويه هويتهم الوطنية.
المساهمون