"البريكس" والمواجهة الاستراتيجية مع أميركا

"البريكس" والمواجهة الاستراتيجية مع أميركا

06 يونيو 2015

قادة دول البريكس في جنوب أفريقيا (25مارس/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

عقدت في العام 2009 قمة تضم مجموعة دول، تتميز بالموارد البشرية الهائلة والطاقات والقدرات الاقتصادية، وسرعان ما تحولت إلى قمة سنوية، احتلت موقعاً متميزاً على الخريطة الاستراتيجية في العالم، أُطلق على هذه المجموعة "مجموعة البريكس BRICS".

وقد عرِف العالم ولادة تجمعات اقتصادية عديدة، خصوصاً عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، كما ولدت تجمعات ومنظمات إقليمية، مثل "اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا NAFTA" و"الاتحاد الأوروبي EU"، وجامعة الدول العربية، ومجلس دول التعاون الخليجي. ومع انتهاء الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين، وكذلك انهيار منظومة الستار الحديدي المتمثلة بالاتحاد السوفييتي، وصعود الولايات المتحدة، وانتشار العولمة بكل مفاعيلها الإيجابية والسلبية، ومع مرور السنوات في ظل القطبية الأحادية الأميركية، بدأ العالم يشهد ولادة دول تمتلك طاقات وموارد ضخمة، كان من شأن توافقها واتفاقها أن يأذن بولادة جديدة لعالم متعدد الأقطاب، وكانت دول طموحة تتمتع بإمكانات وإمكانيات تؤهلها للعب أدوار جديدة على الساحة الدولية، فكان أول اجتماع لوزراء خارجية البرازيل وروسيا والهند والصين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/أيلول 2006، ما أضفى طابعاً رسمياً على تشكل مجموعة الـ "بريك" ذلك العام.

عقد أول اجتماع قمة بين رؤساء البرازيل وروسيا والهند والصين في مدينة ييكاتيرينبرغ، في روسيا في يونيو/حزيران 2009، حيث تم الإعلان عن ضرورة تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية. وشارك في القمة رئيس الاتحاد الروسي، ديميتري مدفيديف، ورئيس الصين الشعبية، هو جين تاو، ورئيس وزراء الهند، مانموهان سينغ، ورئيس البرازيل، لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، واتفقوا على مواصلة التنسيق في القضايا الاقتصادية العالمية الآنية، بما فيها التعاون في المجال المالي، وحل المسألة الغذائية. وانضمت جنوب أفريقيا إلى المجموعة في يناير/كانون الثاني العام 2010، فأصبحت تسمى بريكس "BRICS"، بدلا من بريك سابقاً.


جيم أونيل ونشأة "البريكس"

بصعوبة بالغة، يمكن أن نفصل نهضة اقتصاديات بلدان "البريكس" عن اسم جيم أونيل (O’Neill)، فإن ظهور تسمية بريكس (BRICS) يبدو، في الوقت نفسه، ضرورة (حتمية) ومصادفة، فقد اقترح هذا الاسم، أول مرة منذ عشر سنوات، جيم أونيل رئيس أحد أكبر البنوك التجارية في العالم "غولدمان ساكس" (Goldman Sachs). ففي 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2001، أعطى تعريفا لهذه العبارة في تقرير عن نتائج دراسة حول الاقتصاد العالمي، نشره البنك المذكور، وكان عنوانه "العالم يحتاج إلى المزيد من "أطواب القرميد" (bricks) الاقتصادية" «The World Needs Better Economic BRICs». وعمد المؤلف إلى التلاعب بتعبير BRIC الشبيه بالتعبير الإنجليزي brick، ويعني "طوبة قرميد". وبهذه الصورة، لدى وصف التطور السريع المحتمل للنمو الاقتصادي الذي يمكن أن تحققه في المستقبل البرازيل وروسيا والهند والصين، فإن جيم أونيل هو أول من استعمل هذا التعبير، قبل عشر سنوات، ولتوقعه نموها المذهل، ولزيادة أهميتها في أذهان المستثمرين، والعالم عموماً.

والواضح أن دول "البريكس" تلعب اليوم دوراً بارزاً ومتنامياً على الساحة الدولية، بسبب نفوذها المتزايد على صعيد الناتج الاقتصادي، والتعاون التجاري، والسياسة العالمية، حيث تشكل نحو 30% من مساحة اليابسة في العالم، وتضم 40% من مجموع سكانه. كما يصل حجم الناتج الاقتصادي لها نحو 18% من الناتج الاقتصادي في العالم، إضافة إلى 15% من حجم التجارة الخارجية، كما تجذب نصف الاستثمارات الأجنبية في العالم.

ويُذكر أن فكرة توحيد البلدان الأربعة (البرازيل، روسيا، الهند، الصين) في عبارة واحدة كانت، في حد ذاتها، فكرة إبداعية وبعيدة النظر، فعلى الرغم من الاختلافات، التاريخية، الجغرافية، الثقافية، الدينية، اللغوية، وكذلك وجهة النظر العالمية للدول المذكورة، لكنها ترتبط بكونها بلدانا ذات تطور اقتصادي سريع، وتمتلك نظرة مشتركة نحو نظام عالمي أكثر عدالة. وللمفارقة في اللغة الصينية، تعني العبارة "البلاد المبنية من سبائك الذهب".

ومن المثير للاهتمام أن تقرير (Goldman Sachs) يقول إن البرازيل "قاعدة العالم للمواد الخام"، وروسيا "محطة بنزين العالم"، والهند "مكتب قرطاسية العالم"، والصين "فبركة العالم".

في أكتوبر/تشرين الأول 2003 أصدر جيم أونيل وفريقه بحثاً علمياً بعنوان "حلم البريك: الطريق نحو 2050، ووردت فيه الفرضية الشجاعة أنه حتى سنة 2050 فإن البرازيل وروسيا والهند والصين سوف تتحول إلى قاطرة للاقتصاد العالمي بأسره. وبناءً على هذه الدراسة، يمكن التأكيد أنه فيما يتعلق بحجم الناتج المحلي القائم، سوف تتجاوز البرازيل إيطاليا سنة 2025، وفرنسا في سنة 2031. وروسيا سوف تتجاوز بريطانيا سنة 2027 وألمانيا في سنة 2028. والهند سوف تتجاوز اليابان سنة 2032. وفي الختام، من المحتمل جدا أن الصين سوف تتجاوز الولايات المتحدة الأميركية في سنة 2041 وتصبح الدولة الاقتصادية الأعظم في العالم.

وتتضمن هذه الدراسة أيضا التوقع أنه في سنة 2050، سوف تضم هذه البلدان الأربعة 40% من سكان العالم ومن الناتج المحلي القائم الذي سيبلغ 14 تريليون دولار. وفي سنة 2005، نشر بنك غولدمان ساكس تقريرا عالمياً بعنوان "كم هي متينة دول البريك". وفيه مراجعة وإعادة ترتيب للأفكار المعروضة في تقرير سنة 2003. وجاء فيه أن الصين سوف تتجاوز الولايات المتحدة سنة 2040، أي قبل سنة من التوقع السابق، في حين أن الهند ستتجاوز اليابان، ليس في 2032 بل في سنة 2033.

أمام هذه الأبحاث والتقارير والمعطيات، هل العالم على عتبات تحول اقتصادي جديد ومثير تتغير فيه ملامح الهيمنة الغربية التي دامت نحو خمسة قرون؟

ربما يكون ذلك كذلك بالفعل، لا سيما بعد القمة المهمة جداً لدول مجموعة "البريكس" في منتجع فورتاليزا في شمال شرق البرازيل في يونيو/حزيران 2014، وضمت رؤساء روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل. واللافت أنه قبل انطلاق أعمال القمة، ذكر المحلل السياسي الروسي، دينيس تيورين، مدير نادي الأعمال في منظمة شنغهاي، أنها قمة لمنظمة اقتصادية ذات طابع سياسي بحت، وهذا ما جرى، فقد كان الاقتصاد الشغل الشاغل للمجتمعين هناك، وإن غلفته مسحة سياسية، تمثلت في نموذج روسيا التي تعاني من عقوبات اقتصادية غربية.

طرحت قمة دول "البريكس" في البرازيل علامات استفهام استشرافية مهمة، لا سيما لجهة البنك الجديد الذي أنشأته دولها، وهل سيكون ندا للبنك الدولي، ثم ما الذي ينتظره العالم من دول "البريكس"؟ وربما هذا السؤال من الأسئلة الحيوية العامة، ولكن، يبقى السؤال الأخطر والأكثر أهمية، هل يتحول الصراع الاقتصادي إلى صراع سياسي؟


"البريكس" والحديقة الخلفية لأميركا

ربما يكون الصراع الاقتصادي السياسي قد بدأ، لا سيما بالنسبة لأميركا الجنوبية التي تعتبر حديقة خلفية للولايات المتحدة، لقد قوبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو على خلاف متصاعد مع واشنطن وطردت بلاده من مجموعة الثماني، بسبب دورها في أوكرانيا، بترحيب حار في المنطقة، واستغل جولته أيضاً لزيارة كوبا والأرجنتين، البلد الذي وقع مع دول عديدة اتفاقيات بشأن التعاون النووي، ويواجه صعوبات متنامية في جذب رؤوس الأموال الدولية، وكان قد بدأ يسعى إلى توسيع مشاركة مؤسسة الغاز الروسية العملاقة "غازبروم" في حقل "فاكتامورينا" الجنوبي الذي يعتبر من أكبر احتياطات الصخر الزيتي والغاز في العالم. وهنا صرح الرئيس الروسي أن الأرجنتين "شريكنا الاستراتيجي الرئيس في أميركا اللاتينية"، علماً أن الأرجنتين، من الناحية الاقتصادية، رابع شريك تجاري لروسيا في المنطقة.

وكانت الصادرات الأرجنتينية إلى روسيا أساسا من المنتجات الغذائية والمشروبات، في حين ركزت وارداتها من روسيا على المفاعلات النووية والمركبات والمستحضرات الصيدلانية. وفي الوقت نفسه، تعتبر العلاقات بين واشنطن وبوينس آيرس باردة، وهي ليست جيدة مع برازيليا، منذ اندلاع فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي الأميركي على البرازيل، وترددت تعبيرات ضد الإمبريالية الأميركية لتصبح شائعة من حكومات في المنطقة، مثل فنزويلا وبوليفيا والإكوادور.

ولعل أفضل من عبر عن الواقع الجديد للعلاقات الاقتصادية والسياسية بين دول "البريكس" من جهة ودول أميركا اللاتينية من جهة ثانية، كان رئيس أوروغواي، خوسيه موخيكا، فبعد عشاء جمعه مع بوتين في بوينس آيرس، والاجتماع بينهما في برازيليا، قال إن وجود روسيا والصين يعتبر "طريقاً جديداً يعكس أهمية المنطقة، وربما يبدأ العالم في تقييمنا بصورة أفضل". وبالإضافة إلى روسيا التي تربطها اتفاقيات اقتصادية مهمة مع فنزويلا، تقفز الصين على المسرح قوة جذب كبيرة جديدة في أميركا اللاتينية. فقد قام الرئيس الصيني، في يوليو/تموز من العام 2014، بجولة عبر المنطقة في الأرجنتين، بصحبة وفد من 250 من رجال الأعمال، وأعرب عن اهتمام الصين الخاص بالاستثمار في مجال الطاقة والنقل. ثم تابع جولته في أميركا اللاتينية بزيارة فنزويلا وكوبا، وتعتبر الصين أكبر شريك تجاري للبرازيل وتشيلي وبيرو، والثاني في عدد متزايد من بلدان أميركا اللاتينية.

في الخلاصة، يقول مارك أيز بروت، المدير المشارك لمركز البحوث الاقتصادية والسياسية: "من الواضح أن حكومة الولايات المتحدة لا تحب هذا الوضع الجديد، فأميركا مع عدد قليل من الحلفاء الأثرياء هيمنوا على مقدرات العالم ومؤسساته الاقتصادية 70 عاماً، بما في ذلك صندوق النقد والبنك الدوليان، وأخيراً، أيضاً على مجموعة G8، ومجموعة G20 وكانت هي من صاغت ووضعت قواعد منظمة التجارة العالمية. كما تحاول الولايات المتحدة ممارسة أسلوب القضم، ما يفسر ما جرى مع كوبا أخيراً من عودة العلاقات الأميركية الكوبية.


"البريكس" والملعب العربي لأميركا

يشكل العالم العربي ضرورة استراتيجية للولايات المتحدة، من حيث موارده النفطية، وأيضاً الموقع الاستراتيجي في قلب العالم القديم، أضف إلى أهمية إسرائيل لدى أميركا. لذلك، تسعى الولايات المتحدة إلى تبريد المفاعل الإيراني، وتنظيم "الفوضى الخلاقة" التي تحولت إلى "فوضى ولادة للإرهاب". ومن هنا، سعت مجموعة "البريكس"، أيضاً، إلى الملعب العربي الأميركي. لذلك، من بين الدول الأقرب إلى سياسة المجموعة العربية، تظل البرازيل، بسياستها الخارجية، مؤهلة لفتح آفاق تعاون ثنائي، وصولا إلى تعزيز شراكة متقدّمة، خصوصاً وأنّ البرازيل تسعى، في انضمامها إلى دول "البريكس"، إلى تقوية سياستها الخارجية القائمة على الدعاية إلى السّلم، وعدم التدخل في سيادات الدول، والبحث عن حلول سلمية للصراعات القائمة، فضلا عن الدفاع عن المصالح الوطنية، حيث جعلت رأس حربتها الدبلوماسية الخارجية عنصراً أساسيا في مشروع تنميتها الاقتصادي والاجتماعي الوطني، خصوصاً ما يتعلق بتكريس منطق التعاون جنوب - جنوب. وهو منطق يعزز تعدد الأقطاب والدعوة إلى دمقرطة المؤسسات الدولية، لرفع التحديات المطروحة.

كما أنّ الانفتاح على الهند وجنوب أفريقيا والصين، وفي الأخير روسيا، خيار ليس معدوماً أو منقطعاً عربيا، لكنّ نتائجها تبقى شحيحة في دائرة الاستقطاب والتحالف القائمة حاليا.

وتشكل ملفات عديدة نقاط تقارب بين الدول العربية ومجموعة "البريكس"، في ظلّ التخفيف من تداعيات توجه الولايات المتحدة الأميركية نحو شرق آسيا، لمواجهة الصين وروسيا ولعبة التموضع الاستراتيجي مع إيران في الشرق الأوسط وهندسة المنطقة جيواستراتيجيا بأيد غير عربية، ولذلك، يرى محللون أنّ الدول العربية بدأت تسعى إلى مراجعة تحالفاتها، لفتح صفحة جديدة مع القوى الدولية الصاعدة، وتوجيه بوصلتها صوب دول "البريكس"، ردّا على السياسات الأميركية المتلكئة تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط.

يتفق محللون كثيرون على أن التوافق الروسي-الصيني هو "توافق الضرورة"، وتمليه الحاجة إلى إيجاد نظرة جديدة إلى العالم، من أجل فهم مصالح كل دولة في ظل خلفية العولمة، وهذا الانفتاح يجب أن يسير بالتوازي مع منع أيّ توجيه للأحداث الراهنة في سورية والعراق واليمن، واستغلالها في الاستراتيجية الروسية والصينية المنافسة للاستراتيجية الأميركية. حيث من الضروري أن يكون هنالك انفتاح عربي على أطراف دولية أخرى مؤثرة، غير واشنطن وحلفائها، لتتمكن القوى العربية من ضبط الإيقاع الحالي. ولكن، يجب ألا يسير ذلك في اتجاه معاكس للمصالح العربية.

ويقتضي هذا التوجّه من الدول العربية عدم الانخراط في لعبةٍ، يحددها قائد دولي واحد، بل عليها الانخراط في دينامية التاريخ وتعزيز علاقاتها مع قوى الدفع الجديدة في السياسة الدولية. وعلى الرغم من أنّ العلاقة بين العرب ودول "البريكس" لن تكون خالية من التوترات السياسية، إلا أنه من المهم الانتباه إلى أنّ دولا نامية صاعدة قد تؤثّر في شكل النظام العالمي الذي بنت عليه الدول العربية ذاتها تحالفاتها منذ عقود.