"الأخ الأكبر في جيبك"... دليل أولي لفضح التجسس الأميركي

"الأخ الأكبر في جيبك"... دليل أولي لفضح التجسس الأميركي

09 مارس 2017
من تحرك ضد التجسس الأميركي في كييف(سيرغي سوبنسكي/فرانس برس)
+ الخط -




ما زال "الأخ الأكبر" يراقبك، في كل مكان حرفياً هذه المرة، لا مجرد مبالغات تتعلق بالاتحاد السوفييتي ورفض الدولة الشمولية الشيوعية. المفارقة التي تكشف عنها تسريبات "ويكيليكس" الأخيرة، أن أدوات المراقبة الإلكترونية الحديثة، ذهبت بعيداً في تطورها، في الولايات المتحدة الأميركية، أي في فضاء الديمقراطية الليبرالية الغربية، وفي سياق لا يكشف على وجه الدقة، إن كان موجهاً للخارج فقط، أو تعرض للداخل الأميركي، ما يعني تعقيدات قانونية هائلة تتعلق بخصوصيات وحريات المواطنين الأميركيين. تأتي تسريبات "ويكيليكس"، والتي أطلقها الموقع الثلاثاء تحت عنوان (Vault 7) وشملت آلاف الوثائق المتعلقة بالاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) في سياق التسريبات التقنية البحتة، وإن كانت السياسة حاضرة في صلب عمليتي التجسس والتسريب، بالإضافة إلى عواصف سياسية متوقع أن تثيرها الوثائق، خصوصاً في ما يتعلق بالحرب "السايبرية" التي تُخاض بالخفاء، من دون أن يعلَن عن خسائرها يومياً عبر الإعلام.
تكشف الصفحات والوثائق المسربة، والتي يبلغ عدد دفعتها الأولى 8761 صفحة، عن تفاصيل تقنية تتعلق بآليات التجسس والمراقبة الإلكترونية، وتطوير برمجيات قادرة على اختراق كل شيء، من الهواتف الذكية والكومبيوترات، إلى التلفزيونات الذكية، وأجهزة التحكم عن بُعد، وكل التطبيقات التي يُحكى غالباً عن حصانتها وقدرتها العالية على التشفير.
لكن التسريبات الأخيرة تشير إلى ما هو أخطر، ويتعلق بتورط الحكومة الأميركية، وبشكل متعمد، في تسهيل اختراق الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية. إذ تُظهر الوثائق المسربة أن الحكومة الأميركية متواطئة (من خلال الاستخبارات المركزية) في تسهيل اختراق الأجهزة الإلكترونية، من خلال علمها بوجود ثغرات يمكن استغلالها من القراصنة، ولكنها عوضاً عن التواصل مع الشركات التقنية من أجل إصلاح تلك الثغرات، لمنع اختراق خصوصيات المواطنين الأميركيين، كانت تقوم باستغلالها بصورة مباشرة في الحصول على المعلومات. أي بكلمات أخرى، كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تعرف الثغرات التي يستخدمها القراصنة للتجسس على الأميركيين، وكانت تسمح بهذا، بل تقوم باستغلالها لصالحها.
لكن الوثائق لا تبيّن بصورة دقيقة وقطعية، نطاق استخدام هذه البرمجيات، إذ لا تنص على نطاق عمليات الوكالة، إن كان خارجياً فقط، أو قامت باستخدام هذه التقنيات للتجسس على مواطنين أميركيين. لكن في ظل التنافس بين أجهزة الاستخبارات الأميركية، خصوصاً بين وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA) فمن غير المستبعد أن تكون هذه البرمجيات قد استُخدمت على نطاق واسع للتجسس على الأميركيين.
وهنا يبدو أن فصل ما هو أميركي عن غير الأميركي في سياق التجسس الإلكتروني أمر غير وارد، فـ"ساحات المعركة" متداخلة في الفضاء الإلكتروني، ومن المستبعد أن يكون القرصان التابع لوكالة الاستخبارات، حريصاً على التمييز حول جنسية الهدف، أو موقعه، خصوصاً أن المساحة ما زالت ضبابية بين المرخّص به، وغير المرخّص، في حروب السايبر.
تكشف الصفحات المسربة عن كمّ كبير من البرمجيات، التي يمكن استخدامها من أي أحد، للقرصنة. وتتضمن برمجيات لاختراق التلفزيونات الذكية، واختراق الكومبيوترات من خلال برمجيات مكافحة الفيروسات التجارية المجانية المتناثرة في الإنترنت.


وتؤكد تسريبات "ويكيليكس" أن هذه الوثائق التي تحوي شفرات وطرقاً تجسسية، كانت متداولة على نطاق واسع، بين موظفي الاستخبارات المركزية ومتعاقدين مع الوكالة الفدرالية، إضافة إلى آلاف القراصنة المتعاونين معها. إذ لم تُصنف هذه الوثائق باعتبارها عالية السرية، ربما لتجنب تصنيفها داخل الوكالة، وبسبب تداولها على نطاق كبير. ويشير الموقع إلى أن الوثائق تم الحصول عليها عبر أحد المتعاونين مع الوكالة الأميركية، إلا أن هناك شكوكاً تدور حول هذا الأمر، ويرجح البعض أن يكون مصدر الوثائق عملية اختراق إلكترونية، روسية أو صينية.
المجموعة الأولى من صفحات وكالة الاستخبارات المركزية المسربة، نشرها موقع "ويكيليكس" تحت عنوان "العام صفر" والتي تشمل وثائق مسربة من مركز "الاستخبارات السايبرية" في لانغلي في ولاية فرجينيا الأميركية. وتتضمن تفاصيل ترسانة البرمجيات التي تستخدمها الوكالة الأميركية لفكر شفرات مؤسسات تقنية كبرى، تشمل برمجيات آبل، وأندرويد، وويندوز.
يعمل تحت مركز الاستخبارات السايبرية، بحسب الصفحات المسربة، أكثر من خمسة آلاف حساب، قاموا بإنتاج آلاف أنظمة التجسس والبرمجيات الخبيثة، والتي استخدمت أسلحة للتجسس وجمع المعلومات وتدمير بيانات. وخطورة هذه البرمجيات، أنه في حالة فقدان السيطرة عليها في فضاء الإنترنت، فيمكن لأي مستخدم لا علاقة له بالوكالة، أن يعيد استخدمها وينجح في القرصنة من خلالها.
وبحسب أحد خبراء التقنية الذين تواصلت معهم "العربي الجديد"، فإن هناك "سوقاً غير أخلاقي" للمعلومات المتعلقة بـ"برمجيات الاختراق والثغرات في الأنظمة الإلكترونية" وأن هذه السوق توصف من باب المبالغة أحياناً، بأنها توازي "سوق الأسلحة". إذ تحرص الشركات والمؤسسات الاستخباراتية والقراصنة على تداول معلومات الثغرات، والتي في حال انتشارها "يحاول أصحاب البرنامج أو الشركة المطلقة للتطبيق إصلاح الثغرات، كما يحاول القراصنة استغلالها". ويضيف "بحسب الموارد المتاحة للاستخبارات الأميركية، فمن الطبيعي أن تكون إمكانياتها لكشف الثغرات كبيرة".
تكشف صفحات "ويكيليكس" المسربة بشكل تفصيلي عن طرق اختراق وتجسس متطورة بصورة غير مسبوقة. مثل تقنية "الملاك الباكي" أو (Weeping Angel) والتي تتعلق باختراق أجهزة التلفزيون الذكية. وتقوم هذه التقنية باستخدام التلفزيون باعتباره جهاز تسجيل (مايكروفون) يقوم بتسجيل المحادثات الدائرة في محيطه، ويرسلها لسيرفرات خاصة بوكالة الاستخبارات الأميركية. وهذه التقنية، بحسب "ويكيليكس"، تعمل حتى في حالة إغلاق التلفزيون، أو ما يعتبر "إغلاقاً مزيفاً".
وتتحدث وثائق "ويكيليكس" المسربة عن محاولات لاختراق أنظمة تشغيل السيارات الحديثة، للتحكم بها، كما تشير إلى اختراق الهواتف وإرسال كل المعلومات التي يحتويها إلى "سي آي إيه" إضافة إلى إمكانية استخدام كاميرا الهاتف والميكروفون الذي يحتويه لجمع معلومات. وفي هذا السياق، أتاحت إمكانية اختراق الهواتف بصورة مباشرة، تجاوز أنظمة التشفير المستخدمة من تطبيقات المحادثات الإلكترونية، مثل تليغرام وواتساب وسيغنال وغيرها، إذ لم تعد "سي آي إيه" بحاجة لفك تشفير البيانات، ما دامت قادرة على الوصول إليها على الجهاز بصورة مباشرة، قبل التشفير.
وتظهر صفحات "ويكيليكس" استخدام "سي آي إيه" لغة عسكرية بحتة في وصف برمجياتها وعملياتها، فالوكالة تتعامل مع "الحرب السايبرية" باعتبارها فعلاً موازياً للحرب. وربما بهدف إعطاء الوكالة هامشاً أكبر، في "الحرب السايبرية" باعتبارها في "حالة حرب" بصورة أو أخرى.
صفحات "سي آي إيه" المسربة، ستُدخل الوكالة، والحكومة الأميركية، في دوامة أسئلة لا تنتهي على الأرجح، ابتداء بسؤال الخصوصية والحريات الفردية، وليس انتهاء بالأسئلة الاقتصادية المتعلقة بحماية المنتجات الأميركية التقنية، وقدرة الشركات الأميركية على التنافس، وسبل حمايتها، كجزء من حماية الأمن القومي الأميركي، الأمر الذي لا يبدو أنه يجري على ما يرام بحسب وثائق "ويكيليكس" المسربة. فإثبات تسبّب وكالة الاستخبارات الأميركية بأضرار لشركات التقنية الأميركية، من خلال استهداف الأجهزة والبرمجيات التي تُنتجها، وما يترتب على هذا من نقاش اقتصادي وقانوني، قد يتفاعل بصورة كبيرة خلال الأيام القليلة المقبلة، وربما تجر هذه التسريبات فضائح أكبر، قد تسبب أضراراً بالغة بالترسانة الأميركية في "حرب السايبر" التي يبدو أن الروس باتوا اليوم أكثر تقدماً فيها، من خلال ما يثار عن تدخلهم في الانتخابات الأميركية الأخيرة، أو ما يشاع عن علاقات جوليان أسانج نفسه، وموقع "ويكيليكس"، بالاستخبارات الروسية.

المساهمون