Skip to main content
استفتاء قيس سعيّد... الارتجال سيد الموقف
صلاح الدين الجورشي ــ تونس
متظاهرون ضد إجراءات سعيّد بالعاصمة، 15 مايو (شاذلي بن إبراهيم/فرانسبرس)

لم يبق سوى أقل من شهرين لتنظيم الاستفتاء على الدستور في تونس، بعدما أصدر الرئيس قيس سعيّد أخيراً مرسوماً يدعو الناخبين إلى التصويت عليه في 25 يوليو/تموز المقبل، من دون أن ينشر مضمون الدستور الذي لم ينجز بعد.

قيس سعيّد يفقد الغطاء الدولي

يشعر الجميع بالارتباك الذي يسود الأوساط القريبة من سعيّد الذي يكاد يكون الوحيد المتماسك، والمطمئن، والمصرّ على مواصلة السير بذات العزيمة والثقة والإصرار على الرغم من الاعتراضات والعقبات. لا شغل له سوى إنجاز هذه المهمة مهما كانت الظروف. لا يهمه إن كان المحيط الدولي والإقليمي غير راضٍ عن أسلوبه في إدارة شؤون البلاد. هو يعتقد بأن العالم يحتاج إلى تغيير، وأن بداية هذا التغيير الكبير ستنطلق من تونس. وآخر ضربة موجعة تلقاها ساكن قرطاج جاءته من البندقية.

تعتبر لجنة البندقية (اللجنة الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون)، هيئة دولية تحظى بالاحترام نظراً لكونها تضم خبراء بكفاءات عالية. تعنى هذه اللجنة بالمسائل ذات الطابع الدستوري، وتدلي برأيها في كل ما يتعلق بالانتخابات وتنظيم الاستفتاء في أي بلد يطلب رأيها ومشورتها.

وجاء أعضاء اللجنة خصيصاً إلى تونس، والتقوا جميع الأطراف، بما في ذلك الجهات الرسمية، واعتبروا في خلاصة تقريرهم، أن المرسوم عدد 22 لعام 2022، المتعلق بتعديل القانون الأساسي المرتبط بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات "مخالف لأحكام الدستور وللمعايير الدولية". كذلك اعتبروا أنه قبل إجراء الاستفتاء لا بد من العودة إلى الحياة البرلمانية، وتنظيم انتخابات جديدة. ولعل أخطر ما أشار إليه هذا التقرير، اعتبار مجمل المراسيم والإجراءات التي اعتمد عليها قيس سعيّد للانفراد بالسلطة، في حاجة إلى إعادة نظر بسبب فقدانها الشرعية.

اعتبرت لجنة البندقية أنه قبل إجراء الاستفتاء لا بد من العودة إلى الحياة البرلمانية، وتنظيم انتخابات جديدة

ماذا يعني ذلك؟ يعني ببساطة أن الرئيس سعيّد فقد بشكل كامل الغطاء الدولي الذي حاول أن يبرر به استيلاءه على مختلف السلطات، وأصبح بموجب المرسوم 117 الحاكم الفعلي والمطلق للبلاد. بذلك أصبح الغطاء الدولي لمصلحة المعارضة التي رأت فيه دعماً لموقفها الطاعن في شرعية المسار الذي يسير فيه الرئيس سعيّد.

دستور تونس الجديد: إنضاج طبخة قبل أوانها

بشكل موازٍ، يشعر الذين قبلوا بالإعداد لهذا الاستفتاء وكأنهم يصعدون طريقاً جبلية شاهقة. فالوقت يحاصرهم بشكل غير مسبوق كأنهم مطالبون بتنضيج طبخة قبل وقتها. هم مطالبون بإنهاء عملهم قبل 20 يونيو/حزيران المقبل، وهو ما دفع هيئة الانتخابات إلى تقديم جميع مطالبها إلى رئيس الدولة حتى يوفر لها الشروط الضرورية للعمل، خصوصاً في هذا السياق الذي تتوالى فيه محاولات التشكيك في مصداقية هذا المسار، وتتوالى المصاعب والطعون والشكوك.

الأهم من كل ذلك أن لا أحد يمكنه الجزم بأن التونسيين قد تهيأوا فعلاً لخوض هذه التجربة، والذهاب يوم الاستفتاء للتصويت بنعم أو لا على دستور لم يظهر للعموم منه شيء حتى الآن.

لم يخسر سعيّد فقط ورقة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي قرّر مقاطعة لجنة الحوار وترك الباب مفتوحاً في وجه الرئيس، بل خسر أيضاً الحزام الجامعي الذي كان ينوي الاعتماد عليه في صياغة مشروع الدستور. لكن رفض جميع العمداء ورؤساء الكليات والمعاهد العليا للقانون واعتذارهم عن عدم المشاركة، كشف عن عمق العزلة التي يواجهها الرئيس في أوساط زملائه السابقين في الجامعة. مع ذلك لم يعبأ بهم، وواصل طريقه.

لم يبق لسعيّد سوى الحزام الضيق الذي يستند إليه، والذي يتمثل بالخصوص في العميد صادق بلعيد، الذي جعله "رئيساً منسقاً للهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، وظنّ أن وزن بلعيد العلمي سيُكسب المبادرة الرئاسية قدراً من المصداقية، لكنه يواجه حالياً حملة واسعة من قبل زملائه الذين يعتقدون بأنه أخطأ الطريق، فيما يعتقد بأنه بصدد إعداد الدستور المقبل لتونس عوضاً عن البرلمان والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.

لكن اللافت للنظر أن بلعيد يلقى منافسة حالياً من قبل أستاذ آخر أصبح قريباً هو أيضاً من الرئيس سعيّد، هو أمين محفوظ الذي صرّح بكونه من جاء بزميله بلعيد للمشاركة في المبادرة الرئاسية، فإذا بهذا الأخير يحتل مكان الصدارة في الهيئة الجديدة.

وبقي محفوظ حزيناً بسبب عدم رضاه عن نص المرسوم عدد 30 (المتعلق بإحداث الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة) الذي لم يتضمن أي إشارة إليه، لا من قريب ولا من بعيد، على الرغم من الجهود المضنية التي قام بها ضمن هذه اللجنة.

يحاصر الوقت بشكل غير مسبوق كل من قبل بمهمة المشاركة في إعداد الدستور

هذا يعني أن درجة التنافس بين المحيطين بالرئيس تزداد حدة يوماً بعد يوم. والسؤال الذي سيبقى مطروحاً بعد هذا السباق المحموم: إلى من سيُنسب الفضل في صياغة الدستور الجديد؟ هل سيكون دستور قيس سعيّد أم دستور العميد صادق بلعيد؟ خصوصاً أن الأخير أعلن بوضوح أنه سينسحب إذا أقدم الرئيس على تغيير أي فقرة في مسودة الدستور يكون بلعيد محرراً لها. فاللجنة في النهاية ليست مستقلة، بل هي "استشارية".

اختبار صعب في صناديق الاستفتاء

لنفترض الآن أن هيئة "الجمهورية الجديدة" عملت بشكل عادي، واتخذت ما تراه من إجراءات، وجاء اليوم الموعود، ماذا سيكون موقف الرئيس من النتيجة التي ستسفر عنها صناديق الاستفتاء؟ هل سيقبل بها إذا كانت غير منسجمة مع توقعاته، ولم تكن نسبة المشاركة وفق الحد الأدنى، أي 50 زائداً واحداً بالمائة من الناخبين؟

درجة التنافس بين المحيطين بالرئيس تزداد حدة يوماً بعد يوم

حتى أنصار الرئيس يعتقدون بأن قيس سعيّد وضع نفسه وشرعيته بهذا الاستفتاء في اختبار صعب، وأقدم على مجازفة خطيرة وصعبة. تعتقد المستشارة الإعلامية السابقة للرئيس، رشيدة النيفر، أن قيس سعيّد سيستقيل إذا صوت التونسيون بالرفض على الدستور الجديد.

أما أستاذ القانون الدستوري الحليف لقيس سعيّد، أمين محفوظ، فقد علّق على هذه الفرضية بالقول إن "أمام رئيس الجمهورية خيارين: إما القيام بمراجعات وتوفير كل الظروف الجيدة لإنجاح الاستفتاء، ولو لزم الأمر إصدار نصوص تعديلية، أو العمل بالمرسوم الحالي وتحمّل المسؤولية إذا فشل الاستفتاء، والاستعداد للعودة إلى دستور 2014، وبالتالي سنجد أنفسنا أمام شكشوكة قانونية أو فوضى مؤسساتية".
لم يكتفِ محفوظ بذلك، بل أقر بأن الحيّز الزمني الذي جرى التنصيص عليه في المرسوم "غير كافٍ لصياغة الدستور". هكذا، مرة أخرى، يكون الارتجال سيّد الموقف.