}

هل ثمة ضمانات للعودة إلى سورية؟

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 8 يناير 2024
استعادات هل ثمة ضمانات للعودة إلى سورية؟
اللاذقية

لست في حاجة لإثبات كم أعشق وطني ـ سورية ـ وكم أحن إلى اللاذقية المُنتهكة، والتي تعرضت لتشويه لا يتخيله عقل، من جريمة تبليط البحر، إلى هدم الأبنية الأثرية، إلى تشويه مبان كثيرة، منها مدرسة جول جمال العريقة، إذ تحولت إلى مُعتقل تسوّرها سلاسل حديدية ثخينة، وحواجز إسمنتية عملاقة، وقد تخلعت نوافذها، إلى مبنى الكازينو الذي كان تحفة جمالية، وصار بناء قبيحًا. اللاذقية التي كنت أسميها عروس الساحل السوري أصبحت اليوم (أرملة الساحل السوري)، لكثرة ما دفنت أبناءها. حين كنت أسافر في مؤتمرات طبية لأمراض العين، أو غالبًا مؤتمرات أدبية، كنت أشتاق إلى اللاذقية كما أشتاق لأمي، كانت اللاذقية أمي التي تُعطيني الحنان والأمان والفرح، بعد الثورة السورية عام 2011، والجحيم السوري، حيث صارت قنوات تلفزيونية عديدة تكتب (سورية مأساة القرن)، وهي فعلًا كذلك، فقد نزح أكثر من ثلث شعبها، عدا عن النزوح الداخلي ـ إذ ضمت اللاذقية وحدها حوالي مليوني مواطن من حلب الشهباء ـ صرت حين أسافر وأفكر في مدينتي الحبيبة المُستباحة والمُنتهكة، مثل سكانها، ومثل كل السوريين، لم أعد أفكر بها كأنها أمي، بل أصبحت اللاذقية كإبن مُعاق لي، قربه عذاب، وبعده عذاب.
تمر السنوات بسرعة، وأكاد لا أصدق أنني في باريس منذ ثلاث سنوات ونصف السنة. أنا لست هنا، ولست هناك (اللاذقية)، أنا في اللامكان (كما كتب إدوارد سعيد في كتابه العظيم "خارج المكان") وكل ما كتبته وأنا في باريس كان عن سورية، وعن شعبي الحبيب، ومعاناته التي هي الهول، عن البحر، وعن الأزقة، وعن فرحي في سوق البالة، حيث كنت أحب الازدحام، وأستمد دفئًا من السوريين المحتشدين في البالة، وكنت أشتري ملابس ودمى أوزعها على الأحبة المحتاجين. وأعترف أنني يوميًا على اتصال مع أصدقاء ومعارف في اللاذقية، رغم ثقتهم بي وبحبي لهم إلا إنهم حذرون في التحدث إليّ، وفجأة ينتابهم الذعر، وينهون المكالمة. إلا أن رسائل على الخاص تصلني من بعضهم، يحكون لي عن الأتاوات التي على التجار أن يدفعوها لموظفي التموين، وعن سرقة المعونات الغذائية، وعن الغلاء الفاحش، وشح الأدوية ورداءتها، يحكون لي عن الأسعار، إذ صار سعر كيلو اللحم (170 ألف ليرة سورية)! أي ما يعادل راتب شهر تمامًا.
أعترف أنني ـ رغم كل صعوبات الحياة في اللاذقية ـ حيث أعيش وحدي وكل أسرتي خارج سورية، لكنني كنت أعشق بساطة الناس في المقاهي الشعبية، كنت أجلس في مقهى خاص للرجال (مقهى بسيط جدًا وفقير في شارع الصليبة) يُقدم الأراكيل والشاي والقهوة، كنت أحس بسعادة غامرة وأنا أتفرج على مهرجان الحياة حولي، الباعة يعرضون البضائع على بسطات، وينادون من دون ملل ليشتري الناس، بائع النظارات متجهم الوجه دومًا يُعلق لوحًا من شبك معدني على نافذة أحد المنازل، والشبك يحمل نظارات طبية من أسوأ الأنواع، لكنها رخيصة. وأنا مع الرجال البسطاء أجلس في مقهى خديجة للرجال، رغم دهشتهم كانوا يقولون لي: أهلين أختي. يقولونها بصدق واحترام ودفء، وأظن أنني كنت تحديدًا أقصد مقهى خديجة للرجال فقط لتنتعش روحي من عبارة (أهلين أختي)، كانت تلك العبارة بالصدق والدفء فيها تلازمني كل يومي. كنت أجلس يوميًا في مقاه شعبية (مقهى خديجة ـ مقهى كافية بريك ـ مقهى ماشطة... إلخ) أستمع إلى كلام الناس، وأحكي معهم، ببساطة كان يُمكن لأية سيدة نازحة من مدينة سورية مُدمرة أن تنضم إلي وتحكي لي قصة حياتها وأسرارها، وأن تهمس في أذني بأفكار خطيرة وهي ترجوني ألا أبوح بما قالته لي، كنت أعدها ألا أقول أيه كلمة، وأظن، بل أؤمن، أن أصدق بوح هو للغرباء، لأننا لن نلتقيهم، نحكي للغريب ما يؤلم روحنا، ولا نراه ثانية. والبوح علاج الروح المحتقنة بالقهر والعذاب، كان ارتياد المقهى يوميًا في اللاذقية أهم فعالية في يومي، كان ثقافة، وكنت أعود إلى البيت أكتب بمصداقية عالية قصص أحبة غرباء، لكن بعد أن باحوا بوجعهم وخوفهم لم يعودوا غرباء بل أحبة. كم أحس بالامتنان لهم، فقد أهدوني قصصهم التي كتبتها من عام 2011 إلى 2019، حيث جمع الأستاذ الشجاع الوطني حسان عباس كل مقالاتي وقصصي طوال تلك السنوات في كتاب وضع له عنوانًا "أن تكون إنسانًا"... الرحمة والسلام لروحه. كنت أتمنى أن ألتقيه وأشكره قبل موته. منذ خروجي من اللاذقية في شهر حزيران/ يونيو 2019، وبدأ الوضع المعيشي والحالة النفسية لسكان سورية يتدهور مثل كرة الثلج، الانهيار الفظيع لليرة السورية، أعلى راتب بالكاد يساوي 16 دولارًا. أزمة المواصلات والبنزين، شح الكهرباء، ألواح الطاقة الشمسية (الأمبيرات) التي تُكلف أكثر من عشرين مليون ليرة سورية (قلة من الناس قادرة على تركيبها)، صار كل الناس يحكون بالأمبيرات، فمن يريد أن يشغل الإنارة والبراد والتلفاز سيحتاج إلى ثلاثة أمبيرات، أي أن يدفع أكثر من مليون ليرة في الشهر، أما البطاريات فلا تعمل، لأنها في حاجة أن تشحن بالكهرباء، والكهرباء مقطوعة معظم الوقت. رواتب الاحتقار لا تساوي شيئًا، وأحيانًا أفكر أنه من الأفضل قطع الراتب تمامًا، فهو لا يساوي شيئًا، وكثير من الموظفين استقالوا من وظائفهم، وأصبحوا يعملون في مهن لا تخطر على بال ـ أعرف أحدهم وهو جامعي استقال من وظيفته، ويبيع علب مناديل ورقية أقسم لي أن دخله معقول، وأضعاف راتب الاحتقار. وأنا مواطنة سورية طبيبة اختصاصية في أمراض العين وجراحتها عملت في المشفى الحكومي (مشفى الدولة، أي المشفى الوطني، ربع قرن)، تقاعدت مُبكرًا، لأن القانون الطبي يحسب كل سنة في اختصاص طب العيون سنة ونصفًا. راتبي التقاعدي الآن حوالي عشرين دولارًا. لولا عيادتي الخاصة، ولولا مبيعات كتبي التي تزيد على 36 كتابًا، بين قصة ورواية، ولولا المقابلات التلفزيونية والمحاضرات التي كنت أقدمها في دول الخليج، ولولا دعم من أبي (الرحمة لروحه) كيف كنت سأعيش وأؤمن عيشًا كريمًا لابنتي.




أعترف أنني اضطررت لأن أترك اللاذقية (رغم عنادي بعدم تركها)، لأن الاستدعاءات لكافة فروع المخابرات زادت كثيرًا بعد كل مقال أنشره مترافقة طبعًا بالمنع من السفر (هذا التلازم ضروري)، مع أنني في معظم مقالاتي كنت أكتب أوجاع الناس، وفي كتابي "وجوه من سورية" (طباعة دار الساقي عام 2017) تعمدت أن تكون كل قصص السوريين الذين أعرفهم، وكتبت قصصهم بأسمائهم الحقيقية من أجل طهارة الحقيقة، كي لا يكونوا أرقامًا. وقلت هذا الكلام في برنامج ثقافة على فرانس 24. العبارة الموحدة بين كل فروع الأجهزة الأمنية هي (مقالاتك فيها نشر الغسيل الوسخ)! سبحان الله لعلهم متفقين على تلك العبارة. ويبدو أن الحقيقة تتحداهم، ويسمونها الغسيل الوسخ، لكن هل يُنشر الغسيل النظيف! وكنت دومًا أتسلح بالعبارة التي قالها القائد إلى الأبد، حافظ الأسد: السكوت عن الخطأ مشاركة فيه. كان استشهادي بعبارته هذه نوعًا من الوقاية لي، لكن الذل الأكبر كان في استجداء ما هب ودب من شخصيات أعرفها، أو عن طريق معارف، لإلغاء منع السفر. أكثر من خمس مرات فوجئت أنني ممنوعة من السفر. أكتشف ذلك عند الحدود السورية اللبنانية (العريضة)، وتبدأ الرشاوى والوساطات والترجي لإلغاء منع السفر. أما القلق المُروع الذي كنت أعيشه فهو الهول والجنون. كنت أستفيق مذعورة في الثانية فجرًا، أجلس على شرفة بيتي مقابل مشفى الأسد الجامعي الذي تحول إلى مشفى تديره روسيا، لا أحد يدعمني فكل الأصدقاء يرتعبون ويخافون لمجرد أن يسمعوا أن أحدًا استدعاه فرع مخابرات. في إحدى المرات، استدعاني فرع مخابرات كفر سوسة في دمشق!! أي ذل أكبر أن أسافر من اللاذقية إلى دمشق لأدخل فرع مخابرات كفرسوسة، ولا أعرف إن كنت سأخرج منه!!
الآن وأنا في نهاية العام الكارثي، حيث فرط الإجرام، أتساءل ما هي ضمانات عودتي إلى سورية!!! كتبت في باريس مقالات كثيرة توثيقية لحياة الأحبة السوريين، كتبت أربع مقالات عن الأيقونة، مسيح اللاذقية، رامي فيتالي، في جريدة "القدس العربي"، والذي سُجن أكثر من ستة أشهر بتهمة خلبية (إهانة وزارة الداخلية!!!) هو الذي كان هاجسه إنقاذ أطفال الشوارع المتسولين من التسول، ومن إدمان مادة الشعلة المخربة للخلايا العصبية في الدماغ. هو مسيح سورية عالي الثقافة في الموسيقى والرياضيات والفلسفة، وهو مدهش الإنسانية، ومؤمن حتى نخاع عظامه، تم سجنه وتلفيق تهم ضده رغم أنه يملك الجنسية البريطانية، لكنه يعشق اللاذقية. رجل آخر هو رئيس جمعية الإخاء، ورئيس جمعية التوحد للأطفال، نبيل ديب، من أرقى الرجال وأكثرهم إنسانية. يحمل الجنسية الأميركية، لكنه يحب خدمة وطنه. هو في السجن منذ أشهر، لأنه كبش فداء لفاسد يعرفه كل الناس، لكنهم يموتون خوفًا من أن يحكوا. حين كتبت على صفحتي في فيسبوك: ادعموا نبيل ديب... لم يجرؤ أحد أن يضع لايك، ولا أن يكتب كلمة دفاعًا عنه.
الخوف السوري تجاوز حدود المعقول، صار رُهابًا، ذبلت الأرواح من الخوف والذل، وصار كل سوري (خاصة في الساحل) يعيش في قوقعة لا يجرؤ أن يشكو، ولا أن يسأل، ولا أن يعترض، فبكل بساطة تهبط عليه جريمة إلكترونية، وربما تهمة إهانة وزارة ما، أو المس بهيبة الدولة!! لكن حين يكون سعر كيلو اللحم في سورية 170 ألف ليرة، أليس ذلك مس بهيبة الدولة!!! حين ماتت منذ سنة شابة بعمر الورود في حفرة الصرف الصحي في قلب اللاذقية، أليس ذلك مسًا بهيبة الدولة!!! حين ينتظر رجل خدم وطنه ثلاثين سنة في بيته أسبوعًا كاملًا وعينه على شاشة الموبايل في انتظار الرسالة ليذهب ويأخذ حصته من البنزين التي لا تكفيه أيامًا، أليس هذا مسًا بهيبة الدولة!!! حين تقرر جمعية الحوار السوري السوري (وهي تضم كما فهمت بعضًا من الأعضاء كانوا سجناء رأي) أن تكرمني في اللاذقية، وينتهي التكريم أن كاتب تقارير سافل يدعي أنه فنان تشكيلي (ب ـ س) يكتب بي تقريرًا ويقدمه لعدة فروع أمنية، ويقوم بتصوير أكثر من عشرين مقالًا كنت قد نشرتها، وينتهي التكريم في اللاذقية بمنعي من السفر واستدعائي لعدة فروع أمنية، أليس هذا مسًا بهيبة الدولة!!! حين تم تكريمي في مدينة مونبلييه بسببب صدور روايتي "امرأة من هذا العصر" بالفرنسية أصابتني صدمة بسبب الحفاوة والاحترام، وحضور مديرة دار النشر والمترجم الأستاذ القدير فهد توما، وفي اليوم التالي أصروا على أن يصطحبوني في رحلة إلى أروع جبال رأيتها في حياتي: جبال السيفين (ارتفاعها أكثر من 3000 متر عن سطح البحر، والوصول إليها يحتاج على الأقل ثلاث ساعات). كنت طوال الوقت مرتبكة، وفي حالة حيرة، حتى أن أحد الأصدقاء، وهو سوري يعيش في مونبلييه سألني: ماذا بك؟ تبدين متوترة وغير سعيدة!!! قلت له لا المُشكلة أننا لم نتعود على الإطلاق أن نُكرم في سورية. التكريم في سورية هو الاستدعاء لفرع مخابرات.
لست الوحيدة التي تسأل: ما هي الضمانات للعودة إلى سورية!!! لأن المحقق في آخر مرة استدعاني فيها قال لي: اسمعي! إذا أردت البقاء في وطننا عليك أن تصمتي تمامًا (أي اخرسي) إذا لم تكوني قادرة على السكوت اخرجي من بلادنا. صرخت وأنا أقول له: هي بلادي ووطني أيضًا... أتفهم؟ إن سورية وطني وبلادي.
انعدام الثقة بين الشعب والسلطة كارثة فظيعة. الشعب السوري فقد الثقة بكل شيء، ولا يصدق شيئًا، ويُصفق وينخ ويدبك رغمًا عنه. لكن روحه خمرتها المرارة والأحزان وانعدام الأمل والخوف لحد الذعر.
انعدام الثقة يستحيل علاجه إلا بما يُشبه بيت الشعر:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب.
أؤمن بالجراحة أكثر من الطب الداخلي؛ أؤمن أن العلاج الأمثل هو البتر.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.