}

بين الأدب والتأريخ

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 20 ديسمبر 2023
آراء بين الأدب والتأريخ
(يوسف عبدلكي)

 

استوقفتني مقابلة للسيدة بثينة شعبان تتحدث فيها بحماسة وقناعة عن "المشروع الرائع" الذي تم طرحه خاصة لفئة الشباب وهو كتابة قصص قصيرة خاصة بالسنوات من 2011 إلى 2023 والهدف من هذه القصص أن يكتب كل شاب وشابة حادثة معينة أو حوادث كان شاهدًا عليها في سنوات الحرب في سورية، أي كتابة قصص واقعية (وكم من قصص لا نهاية لها تُكتب خلال السنوات الـ12 الأخيرة في سورية)، ولكن ثمة بعض النقاط لا بد من الإشارة إليها حول المشروع الكبير الضخم لكتابة قصص قصيرة من قبل شباب وشابات سورية واعتبار تلك القصص كتأريخ (أي كتابة التاريخ) لما حصل ويحصل في سورية. وبدت شعبان سعيدة جدًا بتلقي الكثير من القصص وقالت: كانت بعض القصص مجهولة الاسم.

بداية يجب أن نُعرّف معنى كلمة مُؤرخ، فالمؤرخ يجب أن يتمتع بثقافة عالية في التاريخ والسياسة (بالتأكيد لن يكون شابًا في العشرينات)، وأهم صفات المؤرخ أن يكون مُحايدًا أي ممنوع عليه أن يُبدي تعاطفه مثلًا مع أحد أطراف الصراع (أو الحرب) رغم أنه ضمنيًا قد يكون متعاطفًا مع طرف من الأطراف المتحاربة، لكن عليه أن يكتب بموضوعية وبعيدًا كليًا عن عاطفته لما يحصل في الواقع، أي أن تحييد العاطفة أهم صفة لدى المؤرخ. وعلى المؤرخ أن يكون صادقًا وموضوعيًا في كتابة الأحداث وأن يُلقي الضوء عليها في تحليل وفهم دوافع تلك الحرب وأجندة كل طرف من أطراف الصراع. أي أن كتابة التاريخ تُشبه إلى حد بعيد تصوير فيلم وثائقي لحرب لكن المؤرخ يكتب ويُحلل تحليلًا موضوعيًا شفافًا صادقًا لما يحصل ولا يُغفل شيئًا. ولا يُدين إطلاقًا لأن الإدانة تعني أنه لم يُحيّد عواطفه. وأعتقد أن قلة من المؤرخين تمتعوا بشرف المهنة، فكثير من المؤرخين نجح السياسيون والحكام في شراء ضمائرهم ليكتبوا ما يريد المنتصر (أحيانًا المنتصر هو المجرم).

بالعودة لمشروع كتابة القصص القصيرة من قبل شباب سورية وشاباتها واعتبارها "تأريخًا" لما حصل في سورية خلال السنوات العشر الأخيرة فهذه قضية خطيرة لأسباب عديدة.

أولًا، الأدب بكل أنواعه سواء كان شعرًا أو رواية أو قصة قصيرة يعتمد قليلًا أو كثيرًا على الخيال، والكاتب لا يستطيع تحييد عاطفته وحتى فكره عما حصل، صحيح أن هناك روايات تاريخية عظيمة لكنها خلقت عالمًا خاصًا مُوازيًا للواقع، أي لا يُمكن اعتبارها كتبًا تؤرخ للواقع خاصة للحروب. الكاتب لا يستطيع تحييد عواطفه إطلاقًا، كيف يُمكن أن يكتب كاتب قصة موت أطفال غزة دون أن يدين الأحتلال الصهيوني!!! كيف يمكن لشاب سوري أو شابة سورية أن تكتب قصة عن أخ استشهد في الحرب السورية دون أن تكون الكتابة معجونه بالألم، أي أن تحييد العواطف في الأدب مستحيل.

من أين لهؤلاء المساكين الفقراء الجياع الكم الكبير من المعرفة والثقافة ليكتبوا ويفهموا حقيقة الوضع السوري؟ (gettyimages)


ثانيًا، لنفترض أن مشروع كتابة القصة القصيرة في سورية من قبل شباب وشابات في بداية العشرينات من عمرهم مشروعًا محفزًا على الكتابة وأن القصص التي سيكتبونها يُمكن اعتبارها تأريخًا لما حصل في سورية في السنوات الأخيرة (12 سنة). لا بد من ذكر أنه في سنة 2011 كان عمر هؤلاء الشباب والشابات عشر سنوات إلى 13 سنة، والعالم كله يشهد الهول الذي عاشه السوريون طوال هذه السنوات من نزوح ثلث الشعب السوري إلى بلاد الله الواسعة ومنهم ماتوا غرقًا في قوارب الموت، إلى أزمات الكهرباء والماء والغلاء والمجازر وموت الملايين، وكوكبة من الشهداء، وفصائل دينية متطرفة وهيمنة إيرانية على كل شيء حتى الثقافة، وطبعًا الوجود الروسي والوضع السياسي والمعيشي المُعقد جدًا في سورية لدرجة سُميت المأساة السورية (مأساة القرن). إذًا كتاب القصة القصيرة من شباب وشابات سورية عاشوا السنوات العجاف في فقر وقهر والإحصائيات تدل على هجرة معظم الشباب إلى دول أوروبية وكندا وأستراليا كي لا يكونوا الشهداء الأبطال. ومن أين لهؤلاء المساكين الفقراء الجياع الكم الكبير من المعرفة والثقافة ليكتبوا ويفهموا حقيقة الوضع السوري؟ هم أساسًا يعانون من رداءة التعليم في المدارس والجامعات وانعدام تام للنشاطات الثقافية الحقيقية، يكفي أن نلقي نظرة سريعة للمحاضرات التي يُقدمها اتحاد الكتاب العرب حتى نعرف هول التضليل، ففي الوقت الذي يعاني الشعب السوري من المجاعة والفقر والمرض وانعدام الحرية يتحفنا كاتب في اتحاد الكتاب بمحاضرة عنوانها (إدارة الاختلاف)!!! وكل محاضرات اتحاد الكتاب العرب يُمكن أن نضع لها عنوانًا يُعرف بها جيدًا هو (كيف نقول لا لأميركا).

إذًا هؤلاء الشباب والشابات مؤرخو المستقبل بقصصهم القصيرة يفتقرون للثقافة والمراجع غير المتوفرة لهم لأن الإنترنت غالبًا مقطوع بسبب إنقطاع الكهرباء، ولأن الهم المعيشي والهدر الوجودي يسحقهم ويسرق كل وقتهم.

أما النقطة الأهم فهي انعدام الحرية، فهل تتوقعين يا سيدة بثينة شعبان أن أيًّا من هؤلاء الشباب والشابات يتمتعون بحرية التعبير؟ كيف سيكون شكل القصص وموضوعها؟ هل سيجرؤ أحد من الشبان على الكتابة عن قصة أخ أو صديق مات تحت التعذيب في أحد الفروع الأمنية؟ مع أن موضوع سجناء الرأي ومن ماتوا في أقبية التعذيب هو في صميم تأريخ ما حصل ويحصل في سورية. ثم إن هنالك ملايين من الشبان الذين يعيشون خارج سورية، ترى ألا يحق لهم أن يشاركوا في كتابة قصص قصيرة عن وطنهم الذي هاجروا منه مرغمين هربًا من الموت والاستشهاد والفقر والأهم انعدام الحريات. أتساءل يا سيدة بثينة شعبان لماذا أولاد المسؤولين الكبار والمناصب الكبرى لا يشاركون في المعارك؛ أم أن الموت للفقراء والانتصار للأغنياء؟ انعدام حرية التعبير في سورية كارثة، مجرد كتابة على فيسبوك يُمكن أن تهبط جريمة إلكترونية على كاتبها ويُسجن. الفساد المروع وطلب الأتاوات من التجار ألا يجب أن (يُؤرخ) وبالأسماء. ماذا سيكتب هؤلاء المساكين شباب وشابات سورية بعمر الورود وهم عاشوا وشهدوا الهول السوري حين كان عمرهم عشر سنوات؟

الأدب وكتابة التاريخ يستحيل أن يجتمعا، ورواية غسان كنفاني الرائعة "رجال في الشمس" هي رواية عظيمة خالدة تحكي عن مأساة الشعب الفلسطيني لكن لا يُمكن اعتبارها كتأريخ.

كتابة التاريخ تتطلب اختصاصيين ثقافتهم واسعة جدًا في التاريخ والسياسة وكل العلوم، تتطلب قدرة على تحليل الواقع والأحداث بحياد تام، أي بتحييد تام للعاطفة والرأي الشخصي.

ليت حرية الرأي تتحقق في سورية. فأية كتابة ستكون وأية قصص وثمة رقيب داخلي يقبع في رأس كل سوري!!

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.