}

عن برنامج "نور حلب": ماذا عن المحاسبة والعدالة؟

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 4 ديسمبر 2023
آراء عن برنامج "نور حلب": ماذا عن المحاسبة والعدالة؟
نور حلب

"نور حلب" برنامج يُقدمه إعلامي شهير، ووصل عدد حلقاته حتى قبل أسبوع إلى أكثر من مئتي حلقة. السيد نور حلب ـ ما شاء الله ـ مفرط الأناقة، لدرجة أنه لا ينسى المنديل الصغير الذي يزين جيب الجاكيت الفاخرة التي يرتديها، وهي بلون ربطة العنق. إفراط في الأناقة ومعظم الشعب السوري أصبح عاجزًا عن شراء لباسه من البالة.
طبعًا لم أتابع كل حلقات السيد "نور حلب"، لكن يكفي حضور بعض الحلقات التي تكشف أي نوع من الإعلام هذا! ولو أردنا اختيار عنوان آخر للبرنامج الذي يُقدمه لوضعنا له عنوانًا "جحافل الفاسدين في سورية". ولا أبالغ إطلاقًا بكلمة جحافل الفاسدين. فالسيد حلب في إحدى حلقات برنامجه الذي يبثه على يوتيوب، فضح سرقة المعونات الغذائية في اللاذقية، وتكلم عن فساد محافظ اللاذقية وسرقاته، والشبكة الكبيرة المرتبطة معه. في الواقع، هو يذكر أسماء فاسدين كثر، مُعتقدًا أن ذلك يُعطي مصداقية لبرنامجه، فهو شفاف مع الشعب السوري، ويفضح لهم بالأسماء كل الفاسدين. وأستغرب كيف لإعلامي أن يستعمل عبارات مبتذلة لا تليق ببرنامج يُقدم للعالم كما لو أنه صوت سورية الحر الصادق. مثلًا، يصف محافظ اللاذقية بأنه "سكير ونسونجي"، ويصف فاسدًا آخر، اسمه عبد المجيد سرور، الذي نهب المليارات، ولديه أملاك في إيطاليا، وأن المال الذي نهبه يكفي لحل ثلاثين في المئة من معاناة السوريين.




الأهم أنه يبدع في وصفه حين يقول: الكل يعرف سرور حين كان "بنطاله ساحل" (أي مهترئ جدًا). السؤال الذي يطرح نفسه يا سيد حلب: كيف أصبح ذو البنطال المهترئ وأنفه يسيل بالمخاط من التعتير والفقر، بضربة ساحر، من أصحاب المليارات، ويملك شققًا في إيطاليا؟
يحس المستمع لمقدم برنامج نور حلب بالدوار من كثرة أسماء الفاسدين: فادي صقر، أبو علي خضر، الذي وصل إلى أعلى المناصب في سورية، وجمع المليارات، ويُقال إنه هرب إلى خارج سورية. وهنالك أسماء مثل فارس كلاس، وأحمد طاهر، الذي كان تاجر خردة، ثم صار يمتلك أكثر من ثلاثين مليون دولار، وكامل صقر... إلخ. سأحتاج إلى صفحات عدة فقط لكتابة أسماء اللصوص الفاسدين الذين نهبوا أموال الشعب السوري بكل الطرق. لكن السيد نور حلب يقول في إحدى حلقاته كلامًا هو أقرب إلى الإعتراف بأن ـ كما قال حرفيًا ـ معظم العملاء والفاسدين ومن خربوا سورية هم في المناصب السياسية والحكومية في سورية؛ اعتراف بالغ الأهمية. لكن السيد حلب لا يخطر في باله أن السؤال البديهي الذي يطرحه كل مواطن سوري: من أوصل جحافل الفاسدين واللصوص إلى تلك المناصب، وظلوا فيها سنوات ينهبون ويمصون دم الشعب السوري؟ وكيف فجأة ـ كضربة ساحر ـ يتحول الأمير إلى ضفدع، والنصاب الذي كان ينحني له الناس خوفًا ينكشف فجأة، فيعرف كل الشعب السوري هول سرقاته (بمليارات الدولارات)! ولا ينسى السيد مقدم البرنامج الإشارة إلى أكثر من أربعين لصًّا في جمارك اللاذقية لو جُمعت سرقاتهم لتجاوزت الأربعين مليار ليرة سورية، لكنه لن يذكر أسماءهم خوفًا من هروبهم. فيا سيد نور لقد هرب الآلاف من الفاسدين من سورية!!!
المهزلة في البرنامج هو الاستخفاف غير المقبول إطلاقًا بعقل المستمع السوري، فأي احتقار للناس حين يُخاطب السيد اللواء (هو لواء عالي المرتبة ومُقدر جدًا)، ويرجوه قائلًا: أرجوك يا سيادة اللواء (الفلاني) أن تكف عن حماية فلان الفاسد! ويدب الحماس في نور حلب، فيقول مخاطبًا اللواء: سيدي أرجوك ألا تحمي هذا الفاسد، هو ليس لصًا فقط، بل قاتل، أي قتل إنسانًا... "يا سيدي اللواء: اعتبر هذا الفاسد صرماية عتيقة، أرجوك اخلع هذه الصرماية العتيقة، واشترِ صرماية جديدة"! (يا لسحر البلاغة اللغوية)، لكن يا سيد نور ألا يحق لكل مواطن سوري أن يسأل: لماذا سيادة اللواء يحمي اللص والقاتل؟ ترى ألا يخطر في بالك، وأنت وصلت إلى حلقات تجاوزت مئتي حلقة من برنامجك، أن تتساءل كيف يشعر الشعب السوري وهو يسمعك؟ وهو لم يشاهد أي فاسد تمت محاسبته وسجنه، أما حيتان الفساد الكبار فمحميون، أو يتبدلون كل فترة. وكيف يُمكنك أن تطالب الحكومة السورية بأن تستمع إلى أوجاع الناس، وأن تسمح لهم بالكتابة على فيسبوك، وأجمل ما في كلامك أنك اعترفت صادقًا بأن كل الخطابات للمسؤولين في سورية وأصحاب المناصب الكبيرة لا تحقق نسب مشاهدة إلا بنسب ضعيفة جدًا، وأن نسب المشاهدة على فيسبوك أعلى بكثير... أنت تطالب إذًا أن يكون لدينا في سورية إعلام حر، لأنك اعترفت بعظمة لسانك أنه لا يوجد إعلام في سورية، لكن يا سيد نور من يجرؤ أن يكتب بحرية حتى عن أبسط الأمور المعيشية في سورية على صفحته على فيسبوك، ويُفترض بك أن تعرف أن تهمة جريمة إلكترونية تهبط عليه ببساطة. ولا داعي لأن أذكر فخر الإنسانية والموهبة والإيمان رامي راؤول فيتالي، الذي أهدى كل وقته وماله من أجل إنتشال أطفال سورية المتسولين من التسول. كانت قضية رامي فيتالي إنسانية، كأنه تمامًا مسيح عصره، فقضيته حماية أطفال سورية من التسول والإدمان على مادة الشعلة، وإرسالهم إلى المدرسة، وماذا كانت النتيجة؟ تم سجن رامي مرتين (في المرة الثانية سجن أكثر من خمسة أشهر) بتهمة إهانة أو المس بهيبة وزارة الداخلية! سبحان الله على هكذا تُهم مُفبركة أشبه بالطلاسم. هل اهتمام شخص إنساني بأطفال سورية الكثر المشردين المتسولين الجياع والناقصي النمو بسبب الجوع هو إهانة أو مس بهيبة الدولة أو وزارة الداخلية؟! أليس ارتفاع ثمن ربطة الخبز من ألف ليرة إلى ثلاثة آلاف ليرة هو مس بهيبة الدولة؟ المنطق وشرف الحقيقة يقولان ذلك. أليس الراتب (رواتب الاحتقار) التي لا تكفي ثمن خبز فقط طوال الشهر هو مس بهيبة الدولة؟ أليس مسًّا بهيبة الدولة حين صار الناس يدفعون ثمن مشترياتهم للتجار عن طريق وزن الكيس الذي يحمل الأوراق النقدية السورية بالميزان، لأن نقص أو زيادة عشرين ألف ليرة، أو حتى خمسين ألفًا، لا يُشكل فرقًا يُذكر. كيف سيكتب الناس بحرية في سورية يا سيد نور؟ ولأنني أعترف أنني لست كاتبة سياسية، بل كاتبة أوجاع الناس الذي كان لي الحظ الكبير (بحكم عملي كطبيبة عيون وككاتبة) أن ألمس آلامهم، وأعبر عنها بمقالات وقصص، لكن النتيجة كانت دومًا منعي من السفر، واستدعائي لمختلف فروع الأجهزة الأمنية (أمن عسكري ـ أمن سياسي ـ أمن دولة... إلخ)، مع أن كل كتاباتي كانت عن أحبة سوريين باحوا لي بوجعهم. لكن الأجهزة الأمنية ترى في مقالاتي: نشر الغسيل الوسخ... اكتشفت أن هذه العبارة هي العبارة الموحدة لدى كل الفروع الأمنية. فعن أية حرية في الكتابة تحكي يا سيد نور؟ كثير من الأحبة في الداخل السوري لا يجرؤون أن يضعوا إشارة (لايك) على كتابة لي ولغيري، لا يجرؤون على وضع إشارة (لايك) إذا كان في الكتابة اسم (إيران) أو (روسيا)، هنالك حالة فوبيا مُرعبة من انتقاد إيران، أو روسيا.
أما مأساة فلسطين الحبيبة فلم تخرج مسيرة واحدة في سورية لتأييد فلسطين، مع أن سورية هي "رمز الصمود والتصدي". تم التضامن الكلامي فقط مع مأساة العصر في غزة من قبل اتحاد الكتاب العرب خاصة، فأصدر بيانًا بعنوان "معًا لوقف إبادة أطفال فلسطين"، وعرض فيلم "صراخ أطفال غزة" مترجمًا إلى العربية، ودعا إلى التضامن، وتقديم الدعم للشعب الفلسطيني لحمايته من الإبادة الجماعية في غزة، ومن حملات القتل الممنهجة في الضفة الغربية، داعيًا إلى وقف العدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني. وأيضًا، من المهم ذكر المحاضرة التي أقامها اتحاد الكتاب العرب بمناسبة الذكرى الخمسين لحرب تشرين، ومعركة طوفان الأقصى، بعنوان "من حرب تشرين إلى معركة طوفان الأقصى"!




أخيرًا، يا سيد نور، وأنت تعرض للسوريين على مدى ساعة كل يوم كلامًا وتحقيقات ومعلومات عن جحافل الفاسدين، وعلى مدى أكثر من مئتي حلقة، ألم يخطر لك أن السؤال الوحيد الذي يدور في عقل المستمع: من أوصل مصاصي الدماء الفاسدين هؤلاء إلى مناصبهم، ليظلوا فيها سنوات طويلة؟ بل قدموا للناس كرموز للوطنية والشرف، ثم وبضربة سحر نكتشف أن (أبو مخطة وبنطلون مهترئ) رُفعت عنه الستارة، وتبين أنه نهب المليارات! أو أن اللص والقاتل الفلاني يحميه اللواء الفلاني!! ترى أليس اللواء شريكه لأنه يحميه؟ إلى هذا الحد تستخف بالحقيقة وبعقول الناس يا سيد نور؟ هل تصدق أن أحدًا يصدقك؟ ونحن نسمع يوميًا عن اعتقالات فوق التصور، خاصة في الساحل السوري. وأستغرب أنك لم تُلمح حتى تلميحًا عن عدد القتلى في إدلب يوميًا، ولم تذكر مرة واحدة كلمة إدلب!

أخيرًا، إلى اتحاد الكتاب العرب، الذي يدعم أهل الغزة بالتضامن الكلامي معه، وبلغته الخشبية، ويعرض فيلم "صراخ أطفال غزة": كلنا نعشق فلسطين، خاصة أطفالها، ولكن ـ عجبي ـ ألم تسمعوا صراخ أطفال سورية؟ ألم تسمعوا صراخ مجزرة أطفال الحولة في سورية التي مات فيها حوالي خمسين طفلًا أكبرهم بعمر أربع سنوات؟ ألم تسمعوا صراخ أطفال مخيم اليرموك، وصراخ الأمهات المفجوعات بأولادهن، والدمار الشامل لمخيم اليرموك، وغيره، مثل داريا، والغوطة، وحمص، ودير الزور،... إلخ؟ ترى ألم يصلكم يا اتحاد الكتاب صراخ أطفال سورية وهم لا يزالون يصرخون من الجوع والحرمان والعتمة والقهر؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.