}

أميركا لا تقرأ الشعر

عبد الرزاق قيراط 24 أبريل 2017
آراء أميركا لا تقرأ الشعر
لوركا ونيويورك

يثير الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، العديد من التساؤلات. وتهتمّ وسائل الإعلام بمسلكه الغريب في تعامله مع زوجته ميلانيا، فتستشير خبراء في لغة الجسد لتفسير ما يرتكبه من (حماقات) في حقّ السيّدة الأولى للولايات المتحدة الأميركيّة، ومنها ما وقع في عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة، حيث تجاهلها مرّة أخرى، فنزل من الطائرة مهرولا بدل أن يرافقها على السلّم مثلما كان يفعل أوباما مع ميشيل، ومثلما يفعل الرؤساء عموما على قاعدة "الإتيكيت" المتعارف عليها في جلّ الثقافات.
ولا يظفر قارئ التقارير الإخباريّة التي خاضت في الموضوع، بتفسيرات حاسمة تنهي الجدل الذي يتصاعد في مواقع التواصل الاجتماعيّ بفضل جمهور واسع تشغله صغائر الأمور وتستحوذ على اهتمامه فيسهر جرّاها ويختصم.
ومن الأسئلة التي يجوز طرحها لفهم الأطوار الغريبة للرئيس الأميركيّ: هل يقرأ ترامب شيئا من الأدب والشعر؟
والجواب لن يكون إلاّ بالنفي، فالمؤكّد أنّ ترامب، رجل الأعمال والمشاريع العملاقة، أفنى أيّامه في قراءة بيانات الأسواق وأسعار الأسهم وعقود الاستثمار. ولو اطّلع على بعض الغزل لما ظهر بتلك الصور غير اللائقة في علاقته بزوجته الحسناء.
قدر الشعراء أن يبحثوا عن وطن يتسع لأحلامهم، واستعاراتهم، وطنٍ صغير بحجم مقعد يسافر بين الثقافات. هكذا تمنّى محمود درويش في قصيدته (طباق) حيث خاطب إدوارد سعيد المقيم في نيويورك وتكلّم بلسانه وحاور الزمان والمكان والذكريات:
أنا اثنان في واحدٍ
كجناحَيْ سُنُونُوَّةٍ
إن تأخّر فصلُ الربيع
اكتفيتُ بنقل البشارة!
يحبُّ بلاداً، ويرحل عنها
هل المستحيل بعيدٌ؟
يحبُّ الرحيل إلى أيِّ شيء
ففي السَفَر الحُرِّ بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ
مقاعد كافيةً للجميع...
يحلم درويش بوطن لا شرق له ولا غرب ولا حدود، حتّى يتّسع لجميع الثقافات التي يمكنها أن تذوب في "الجوهر البشري"، باعتباره الهويّة التي تتعالى عن الزمان والمكان:
لا الشرقُ شرقٌ تماماً
ولا الغربُ غربٌ تماماً،
فإن الهوية مفتوحَةٌ للتعدّدِ
لا قلعة أو خنادق.
ماذا لو قرأ الرئيس ترامب، قصيدة محمود درويش؟
لعلّه سيستحي ويمزّق كلّ القرارات التي اتخذها ضدّ السفر والمسافرين، فلا علاج لجنونه إلاّ جنون شعري/حيويّ مضادّ يغيّر المفاهيم التي جاء بها من دهاليز السياسة الظلماء.. لكنّ ترامب لا يقرأ الشعر، ومستشاريه لا يقرأون الشعر، وأميركا لا تقرأ الشعر إلاّ في معاقل هوليود، حيث الصناعة والتصنّع والكثير من الفنّ البليد.
كثيرة هي القصائد التي تجرح كبرياء أميركا وشغفها الدائم بلغة الاستعلاء والقهر. وما عليها إلاّ أن تتعلّم، وتقف على حقيقتها البشعة كما قرّرتها القصائد المكتوبة فيها وعنها.
يقول أدونيس في قصيدته الملحميّة (قبر من أجل نيويورك):
الساعة تعلن الوقت" (نيويورك – المرأة قمامة، والقمامة زمنٌ
يتجه إلى الرماد).
الساعة تعلن الوقت" ( نيويورك – النظام بافلوف، والناس كلاب
التجارب… حيث الحرب الحرب الحرب!)." الساعة تعلن
الوقت"، ( الرسالة آتية من الشرق. طفل كتبها بشريانه. اقرأها:
الدمية لم تعد حمامة. الدمية مدفع، رشاش، بندقية… جثثٌ في
طرقات من الضوء تصل بين هانوي والقدس، بين القدس،
والنيل
وقبل أدونيس، رثى الشاعر الإسبانيّ لوركا نيويورك حيث عاين بؤس البشر في غابة الحجر والقار، وفجّر شكواه في ديوانه "شاعر في نيويورك"، وفي قصيدة عنوانها "الفجر" يقول:
يطلُّ الفجر ولا أحد يتلقَّاه في فمه،
لأنه ليس هناك صباح ولا أمل ممكن،
وقطع النقود أحيانًا، كأسراب نحل غاضبة،
تثقب أطفالاً مهمَلين وتلتهمهم.
الأوائل الذين يغادرون منازلهم
يدركون في عظامهم
أنّه ليس هناك فردوس ولا حبّ بلا أوراق،
يعرفون أنهم يتجهون إلى وحل الأرقام والقوانين،
إلى ألعاب لا فنّ فيها، إلى عرق يتصبَّب سدى
النور مدفون في سلاسل وضجيج،
في تحدٍّ وقح لعالم بلا جذور.

***

ويجوز تعميم السؤال لبحث علاقة أميركا بالشعر والشعراء، وهي علاقة لا تخلو من بؤس وحقائق مؤسفة، فلهذه الدولة "قائمة سوداء" للممنوعين من دخول أراضيها، تضمّ نحو مليون اسم بعضهم فنّانون مبدعون.
وفي هذا السياق، مُنع الشاعر أمجد ناصر من السفر إلى أميركا، حتّى لا يقف على أطلال حضارتها وأبراجها ويدعوها إلى التفكير:
"فكّري يا نيويورك بالزمن الدائريِّ للأمثالِ،
بالدم والهروين يسيلان من "الغرافيتي" ...
فليس لأميركا رغبة في التفكير والاعتبار، وليس لها الوقت لقراءة الأمثال والتاريخ. أميركا تعيش في "زمن الروبوت" والطائرة بدون طيّار... طائرة مأمورة، ترسل على أعدائها (شواظا من نار)، من دون الحاجة إلى تفكير وتمييز بين أبرياء جمعهم عرسٌ أو إرهابيّين خطيرين..
لا حاجة اليوم لطيّار يفكّر ويشعر.. يكتفي "البنتاغون" بالصور والأزرار، وإرسال الإشارات واستقبالها عن بعد..
وفي زمن "السكايب"، تستقبل أميركا صوت أمجد وصورته على الهواء مباشرة، ويبقى الجسد بعيداً في لندن، لاعتبارات أمنيّة مشدّدة...
"لماذا جرى ما جرى؟"، يسأل الشاعر أمجد ناصر في قصيدته المؤجّلة عن نيويورك، وقبله سأل شاعر الحبّ نزار قباني سؤاله الحائر: "من أنا في أمريكا؟" وجعله عنواناً للتعبير عن غربة الشعراء حين يذهبون إلى تلك الأرض القاصية القاسية، فيتحوّلون إلى "رقم في زحمة الأرقام مفقود"، أو "لغة مفصولة عن أهلها" أو "وردة طالعة من حجر" أو "غيمة تبحث عن نافذة"... " فماذا سيغني شاعر الحب هنا؟"... هكذا يصرخ نزار رافضاً "حبّ الأنابيب وجنس الأنابيب وثورات وضباط يجيئون إلى السلطة من جوف الأنابيب ..".
أمجد ناصر، شاعر آخر، لا تعرفه أميركا ولا يعرفها:
"لم أذهبْ إلى أمريكا قطُ.
عَرَفْتُها مثل غيري من الأفلامِ والأحلامِ والحروبِ
التي ولّدتْ لدينا، نحنُ الذين تنحني جُذُوعُنا، تحت عَجِيجِها المعدنيّ،
على سواقي الدمِ والجفافِ شُعوريْن أصيلين: الحبَّ والكرهَ."
هل يعالج رجال المخابرات قصائد الشعراء كما يفعلون مع المكالمات الهاتفيّة ورسائل البريد الإلكتروني التي يعترضونها ويتجسّسون على أصحابها؟ وإلاّ فكيف نفسّر معاقبة شاعر بسبب ما جادت به قريحته؟
على أميركا إذن أن تقرأ الكثير من الشعر لتدرك أنّها عاجزة عن ملاحقة الشعراء ومحاصرتهم لأنّهم لا يعيشون في مدن وأوطان تراقبها الأقمار الصناعيّة على مدار الساعة، فقد بنَوا لهم أوطانا تليق بهم ذكرها نزار في قوله:
"إنني أحمل أوراقي وأقلامي وأحزاني على ظهري،
وأبني بحروفي مدنا.
فإذا ما صادروا شمس بلادي، فبشعري سوف أبني وطنا".

ستبحث الحسناء ميلانيا طويلا عن نفسها في "وحل الأرقام والقوانين"، ولعلّها أدركت منذ يومها الأوّل في البيت الأبيض "أنه ليس هناك فردوس ولا حبّ"، وأنّه لا فكاك من "السلاسل والضجيج" في سجنها الحزين الذي كتب عنه الشعراء قبل ولادتها بعقود. فليتها قرأت تلك القصائد لتعرف ما تخبّئه الأقدار.

* كاتب تونسي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.