}

حبّ وتغريد في الطريق إلى الإليزيه:الواقع الافتراضيّ للانتخابات الفرنسيّة

هنا/الآن حبّ وتغريد في الطريق إلى الإليزيه:الواقع الافتراضيّ للانتخابات الفرنسيّة
ماكرون وزوجته

تستعدّ فرنسا لاختيار رئيسها الجديد بانتخاب أحد "العاشقيْن" اللذَيْن مرّا إلى الدور الثاني، أو هكذا تبدو المقاربة بمنطق الواقع الافتراضيّ حيث يخلِطُ المغرّدون المحترفون الأوراقَ والأسماءَ والصفاتِ، ويحوّلون، إذا شاؤوا، رجال السياسة ونساءها إلى عاشِقِين ومُغرمات .. وبذلك الوسم، يتابع الفرنسيّون "العاشق" إيمانويل ماكرون (أو مجنون "بريجيت" قياسا على مجنون ليلى)، وقد ملأتْ قصّةُ حبّه الدنيا، وشغلت حبيبتُه الناس.. في مواجهةٍ مشوّقةٍ مع مُنافسته مارين لوبان، "عاشقةُ القطط"، الحريصةُ على إظهار مشاعرها الرقيقة في حسابها بموقع تويتر، حيث نشرت صورا تجمعها بقططها المدلّلة...

بتلك التفاصيل الرومانسيّة الصغيرة، تضجّ المنصات الاجتماعية والمدونات والمواقع الإلكترونية التي تشهد إقبالا متزايدا يعكس انصراف غالبيّة الناس عن صخب البرامج الانتخابيّة وشعاراتها ومناظراتها المتشنّجة...

واللافت أنّ وسائل الإعلام الفرنسيّة واكبت هذه المرّة حراك المواطنين على شبكة الإنترنت، فعرضت إحصائيّات دقيقة تخصّ اهتمامات الناخبين وانتظاراتهم كما رُصدت في عمليّات البحث التي سجّلها المحرّك العملاق "غوغل" قبل ساعات من بداية التصويت. فالكلمات المفاتيح التي تهاطلت عليه تتضمّن أسماء المرشّحين لرئاسة البلاد، ومعالجتُها، فرزاً وإحصاءً، تساعد على استباق النتائج واستخلاص الدروس.

واقع افتراضي

لقد تغيّرت أشياء كثيرة منذ انتخابات 2012، بعد أن اكتسح الواقع الافتراضيّ المزيد من المساحات مستفيدا من مهارات الذكاء الصناعيّ الذي لا يتوقّف عن الابتكار، وفي هذا السياق أعلن مؤسّس فيسبوك أنّ شركته تعمل الآن على تطوير أنظمة جديدة ستتيح للمستخدم الاتصال والكتابة مباشرة عبر قراءة أفكار الدماغ... وإنجازٌ بذلك المستوى العالي من القدرة على الاختراق، سيُحدث ثورة غير مسبوقة في مجال قراءة الأفكار الكامنة في أدمغتنا، بلْ واعتراضها وتحليلها. والمنافسة على أشدّها بين الشركات التقنية العملاقة التي تسير بالمجتمعات البشريّة إلى وجهة غير معلومة.. وفي هذا المجال، نذكّر أنّ "غوغل" أعلن بالاعتماد على المعطيات التي سجّلها في قاعدة بياناته خلال الانتخابات الأميركيّة الأخيرة أنّ الفوز سيكون من نصيب دونالد ترامب.  ولعلّه سيعلن قريبا، وقبل فرز أصوات الدور الثاني لانتخابات الرئاسة الفرنسيّة عن الاسم الذي سيدخل قصر الإيليزيه خلفا للرئيس هولاند. فنسبة الفرنسيّين الذين يتعاملون مع "الواب" بلغت في العام 2016 مستوى 85 بالمائة من عدد السكّان، ما يعني أنّ شركة غوغل قادرة على الإحاطة الدقيقة باهتمامات المجتمع الافتراضيّ لفرنسا في مختلف القضايا التي تشغله والمواعيد الانتخابيّة التي تقرّر مصيره...

وبناء على ما تقدّم، يُفهم اهتمام الجيل الجديد من السياسيّين بمنصّات التواصل الاجتماعيّ، لتعزيز شعبيّتهم، فلا يمكن الاستغناء عن خدماتها في ظلّ هجرة الناس إليها باعتبارها إعلاما بديلا أو موازيا، حيث تتحوّل قطط لوبان وصور ماكرون مع زوجته إلى أدوات تنافسيّة انتخابيّة تبعث برسائل قويّة إلى الناخبين، فتنجح في استعطاف شريحة واسعة من الذين تعجز عقولهم عن الاختيار، فيعتمدوا على عواطفهم وأهوائهم.. فلا يَعْلَق بذاكرة الناخب في آخر المطاف إلاّ تلك الصور الحميميّة التي تغطّي على مضامين البرامج الانتخابيّة المملّة والبيانات الاقتصادية المعقّدة...

وللوصول إلى تلك الشريحة تحديدا، يحرص الناشط السياسيّ على "أنسنة" الصور التي يظهر بها قولاً وفعلاً، وإلا فهو على موعد مع فشل وخيبة، كما حصل للرئيس هولاند بحكم انتمائه إلى جيل سياسيّ قديم.

مغرّد فاشل

كان هولاند مغرّدا "رديئا جدّا" حسب المتخصّصين في متابعة حسابات الزعماء السياسيّين. وهو معذور في ذلك لأنه من فئة رجال الدولة الذين لا يرغبون في مواكبة العصر، "فالتغريد مخالف لقيمه الإنسانيّة" كما لمّح أحد وزرائه، حتّى إنّه أهمل ذلك النشاط التواصليّ لمدّة طويلة امتدّت حَوْلَيْنِ كاملين من 2012 إلى 2014.. وقبل أن تنسُج العناكب خيوطها حول حسابه المهجور، نبّهه مستشاروه إلى ضرورة أنْ يتواصل مع الفرنسيين بنبرة شخصيّة لإنقاذ شعبيّته المتهاوية، ولكنّ محاولاته باءت بالفشل، فليست للرجل مواهب في التعاطي مع التكنولوجيّات الحديثة. والنتيجة أنّ  تغريدات هولاند هي الأقلّ شعبيّة في تاريخ الإليزيه بسبب طغيان الطابع الرسميّ عليها.

وفي علاقة بالانتخابات ومنافساتها، تعرّض حساب الرئيس الفرنسيّ لعمليّات فحص وتدقيق أدّت إلى معاينة عدد كبير من الأخطاء التواصليّة التي ارتكبها في تغريداته خلال الحملة الانتخابيّة السابقة .. ولا يُستبعد أنّ تلك الأخطاء مثّلت عاملا رئيسا من جملة العوامل الأخرى التي دفعته إلى قراره بعدم الترشّح لولاية ثانية.

فجلّ التغريدات التي وجّهها إلى خصمه نيكولا ساركوزي سنة 2012، انقلبت عليه وأصبحت شاهدة على حصيلته الهزيلة. والطريف أنّ بعضها ينطوي على سخرية واضحة من رئيس حظي بولاية أولى ويطمع في الثانية كما أراد ساركوزي، وكما فكّر هولاند متردّدا قبل أن يقرّر الانسحاب، حيث يقول مرّة: "عندما تكون رئيسا للفشل، لا يمكن أن تترشّح للأمل! "، ويعلن مرّة أخرى أنّ "الأفكار الجيّدة يجب أنْ تمتلكها في بداية ولايتك لا مع نهايتها "، ويتعجّب في تغريدة ثالثة:" تخيّلوا خمس سنوات إضافيّة مع نفس الرئيس"! وهكذا هزم هولاند نفسه بنفسه، وقرّر عدم الترشّح ثانية عملا بتغريداته التي أطلقها قبل خمس سنوات ولكنّها طفت على السطح من جديد.

اختراق وتضليل

إنّ ذاكرة الإنترنت حيّة على الدوام، فبضع نقرات تكفي لإخراج الصور والمواقف والتصريحات من الأرشيف، لذلك تحرص مارين لوبان اليوم على تذكير منافسها ماكرون بأنّه كان "مجرّد وزير فاشل" رافق هولاند على امتداد عامين من حكمه، عندما عيّنه وزيرا للاقتصاد، فغرّدت قائلة:" هولاند - ماكرون، هل ترغبون في خمس سنوات أخرى"؟!

 وتُحاول من جهة ثانية تبرئة نفسها من صفة "الكراهية" التي تختزل (في رأي خصومها) كافّة مواقفها وتوجّهات حزبها، والميولات العنصريّة لأتباعها، فتنشر صورها العاشقة للقطط، وتغازل الفرنسيّين قائلة: "إنّ فرنسا هي فعل حبّ... يحقّ لكم الافتخار بذلك، حان الوقت لتحريك المشاعر الوطنيّة.."

وعلى العموم، تبدو الطريق إلى الإليزيه -على الخارطة الافتراضيّة في فرنسا- مزدحمة بالمضامين الرقميّة القادرة على "تحريك المشاعر"، وتوجيه الناخبين إلى خيارات مَحْسُوبَةٍ ومُحَوْسَبَة. فالتغيير الكبير الذي عرفته الحملة الانتخابية في 2017 بالمقارنة مع الحملتين السابقتين، يُفسَّر بعدد الفرنسيّين المتّصلين بالشبكات، وقد تضاعف بشكل ملحوظ نظرا لانتشار الهواتف الذكيّة بين الناس. وهي ظاهرة عالميّة من شأنها أن تُبقِيَ الأفراد والمجتمعات في حالة اتصال وتواصل مستدام. وليس ذلك الاتصال والارتباط إلاّ مظهرا من مظاهر الأسْر والارتهان الذي سيُخضع الشعوب لمشيئة أصحاب المصالح الدوليّة الكبرى. وقد قُطعت مراحلُ متقدّمةٌ في مجال قراءة الأفكار أوّلا، وصناعتها ثانيا، وإحكام السيطرة على العقول البشريّة في مرحلة ثالثة، ببرمجتها أو مجرّد إتلافها عن طريق المضامين المضلّلة التي تدمّر قدرتنا على التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الضارّ والنافع. فهي مثل الفيروسات الخبيثة التي تهاجم الحواسيب فتخرّب البرامج والبيانات المخزّنة في "أدمغتها" الصلبة.

ولعلّ المثال الأميركيّ خير دليل على التخريب الممنهج الذي أصاب عقول الناخبين فأدّى إلى فوز ترامب على غير ما كان يُتوقّع في أميركا وخارجها...

وفي فرنسا توقّعات جديّة بفوز ماكرون، ولكنّ لوبان تسير معه في نفس الطريق المؤدّية إلى قصر الإلزيه، ولها ربّما نفس الحظوظ... ولن بفوز بالمنصب المنشود إلا من سيحصل على "التطبيق الذكيّ" الذي يساعد على تجنّب المنعرجات الخطيرة والمطبّات المفاجئة. فتلك الحيل تفتعل في آخر لحظة لتعطيل أحد المرشّحَيْن بحسب ما يطرأُ على قاعدة البيانات التي تُدار في مكان غير معلوم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.