}

في كواليس الكتابة الروائيّة

آراء في كواليس الكتابة الروائيّة
لوحة للفنان السوري دلدار فلمز

"فكرة الرواية الأصليّة قرأتها على الإنترنت عند عدّة أشخاص على مواقع التواصل الاجتماعيّ"، بهذا الاعتراف الصريح، يدخلنا الكاتب المصريّ محمد ربيع في كواليس روايته "عطارد" التي بلغت القائمة القصيرة لجائزة البوكر سنة 2016. وعندما يفصح الروائيّ عن مصادر أفكاره، فإنّه يقف أمام القرّاء متواضعا، لا تهمّه الصفات الأخرى، كالعبقريّة والبراعة، والموهبة الفذّة، والقدرات الخارقة على التخييل وغير ذلك من الخصال التي تحفل بها كتابات النقّاد..

قدّم الروائيّ المصريّ الشابّ رؤية مخالفة للعمليّة الإبداعيّة، فخصّص الصفحة الأخيرة من روايته ليعترف بجهود الآخرين، وذكر قائمة طويلة من أسماء الذين ساعدوه، قائلا تحت عنوان (شكر وعرفان):

"ما كان لهذه الرواية أن تتمّ دون جهود الأسماء التالية: فكرة الرواية الأصليّة قرأتها على الإنترنت، عند عدّة أشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنّ الصديق نائل الطوخي طوّرها وحدّثني عنها في يوم ما، ولولا أّنه ذكّرني بها لما كتبت"...

ولمن لا يعرف نائل الطوخي، فإنّه كاتب روائيّ أيضا، واللافت أنه يُذكّر صديقه محمّد ربيع (وهو كاتب مثله) بفكرة الرواية ويحدّثه عنها، بل ويطوّرها لفائدته، وهذه علاقة غير شائعة في ميدان تنافسيّ، يتكتّم فيه الكتّاب على أفكارهم، ثمّ يعلنون ملكيّتها، ويغضبون من سرقتها. وما الخصومات الفنيّة التي نسمع بها من حين لآخر إلا دليل على تنازع الأفكار، ومرارة بعض المبدعين الذين يتعرّضون للسرقات الأدبيّة، والمثل يقول "صاحب صنعتك عدوّك".  

لكنّ علاقة ربيع بالطوخي تُكذّب ذلك المثل الشعبيّ الشهير، ولا ينطبق عليها رأي الصحافيّ الفرنسيّ المرموق موريس شابلون (1906-1992) الذي قال ساخرا: "الكاتب لا يقرأ لزملائه بل يراقبهم"... فمن الواضح أنّ جيلا جديدا من الكتّاب يقرأون لبعضهم بعضا ولا يرون مانعا من التبرّع ببنات أفكارهم لمن يرونه أجدر بتخصيبها واحتضانها حتّى تنشأ على يديه نشأة أخرى، وعندها تولد الرواية منسوبة إلى كاتبها الذي تولّى حملها وفصالها وهناً على وهن، ولذّةً على لذّة.  

ويشمل شكر ربيع واعترافه بالجميل مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين "أبدوا ملاحظات مهمّة" بعد أن قرأوا المخطوطة، فذكر أربعة عشر اسما في إشارة إلى أنه كان حريصا على توسيع الاستشارة وتدقيق بعض التفاصيل مستعينا بخبرة أصدقائه الذين يعملون (على الأرجح) في اختصاصات مختلفة.. وفي هذا السياق، ينوّه الكاتب بصديقه:

"مصطفى سلطان، وهو ضابط شرطة سابق، أخبرته أنّ الرواية لن تعجبه، وربّما تكون مخالفة لآرائه، لكنّه مع ذلك لم يبخل بأيّة معلومات تخصّ العمل في الشرطة، وأمدّني بالكثير من المعلومات عن السلاح والذخيرة".

ولا يجد القارئ مشقّة في العثور على تلك المعلومات الدقيقة فنقرأ مثلا:

"أخرجَتْ هي مسدّسا صغيرا من حقيبتها، من أوّل نظرة أدركت أنّه سلاح مصنوع هنا في مصر، مقروطة عادية، صنعها أحد الحدّادين في ورشته بلا تصميم سابق أو تجارب...، ارتدّ السلاح في يدها ردّة خفيفة بفعل المقذوف المنطلق، وتناثر خرز كثير في وجه الرجل وصدره... هذه طلقة خرطوش غير قاتلة في المعتاد، ولكنّها قد تكون كذلك من تلك المسافة القريبة".

وفي سياق آخر، يتحدّث الراوي عن إحدى عمليّات القنص، فيقول:

"كان الهدف واضحا جدا، ولا يبعد أكثر من مئة وخمسين مترا، وهو قريب للغاية بمقاييس الدراجونوف الحبيبة... صوبت نحو منتصف الصدر، فوق الكف العابثة بالتلفون تماما، ومع حساب ارتداد البندقيّة، ومع حساب الريح الخفيفة،، ودرجة الميل الحادّة، أطلقت النار".

ولعلّك تلاحظ "التكنيك" التي يأخذ في الاعتبار حساب الريح ودرجة الميلان، وغيرها من المحاذير التي لا يعرفها إلا الضبّاط المتدرّبون على القنص من مسافات بعيدة.. وفي الرواية شواهد كثيرة تصف تلك العمليّات في ظروف مختلفة، تدلّ مجتمعة على استفادة الكاتب محمّد ربيع من صديقه الشرطيّ.

وباستثناء ضابط الشرطة، لم يذكر الكاتب اختصاص بقيّة أصدقائه، ولكنّ القارئ يظفر بالكثير من التفاصيل التي تحيل على خبرات متنوّعة، منها ما يتّصل بعالم الحشيش والمخدّرات، حيث اعتنى ربيع بوصف التأثير الذي تحدثه سيجارة "الكربون" على مدخّنها، فذكر من التفاصيل ما ينبئ باستشارة مسبقة لبعض المتخصّصين في الميدان، يقول الراوي:

 "في البداية ظننت أنّ الكربون هو اسم لأحد أصناف الحشيش الجيّد... مع أوّل نفس أدركت أنّ هذا ليس حشيشا، الطعم والرائحة مختلفان عمّا اعتدته، هذا لا يحرق الحنجرة والصدر ولا يسبب السعال، ودخانه لا يملأ الأنف برائحة عتيقة، ولا يتشعّب في الصدر منبئا متعاطيه باسترخاء قادم، هذا شيء ذو رائحة عضويّة غير معتادة،، ولسبب ما تذكّرت الجنبري المشوي، رائحة القشرة الرقيقة التي لسعتها نار الشواء... كنت قد أخذت ثلاثة أنفاس من السيجارة..، عندما وجدت مكعّبا أسود كثيفا قد أحاط برأسي.. لم أر أي شيء ولم أسمع أيّ صوت، ولم أتمكّن من التفوّه بأبسط كلمة، وحاولت التنفّس، لكن لا هواء داخل المكعّب".

وعلى العموم، كان الكاتب محمّد ربيع حريصا على تتبّع التفاصيل الصغيرة في كلّ المساحات الوصفيّة التي تخلّلت أحداث روايته، منوّها بما سبقها من قراءة وبحث وتشاور مع ثلّة من أصدقائه الذين ذكرهم بالاسم ليشيد بجهودهم، ويكشف بعض أسرار العمليّة الإبداعيّة الطويلة الشاقّة، بعد الفراغ منها. فالروائيّ في مذهبه لا ينبغي أن يشبه "المسافر الذي يلبس معطفا طويلا ليمحو آثار خطواته"، كما يقول الشاعر الفرنسيّ لويس أراغون، بل يظلّ مدينا لمن دخلوا ورشته الصغيرة وشاركوا في إنجاز مشروعه الكبير.

* كاتب تونسي

 

 

 

 

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.