}

فاطمة المرنيسي.. تفكيك الجنس كهندسة اجتماعية

أشرف الحساني 1 ديسمبر 2019
اجتماع فاطمة المرنيسي.. تفكيك الجنس كهندسة اجتماعية
"تتبوأ فاطمة المرنيسي مكانة مائزة داخل البحث السوسيولوجي"
للباحثة والسوسيولوجية المغربية فاطمة المرنيسي (1940-2015)، التي تحل ذكرة وفاتها هذه الأيام، تاريخ طويل داخل الثقافة المغربية والبحث السوسيولوجي خاصة، وهي باحثة لا تنافسها المكانة من حيث المواضيع إلا الكاتبة المصرية نوال السعدواي، مع اختلاف كبير من حيث المقاربات الفكرية والمنطلقات المنهجية التي تنطلق منها المرنيسي في تحليلاتها لعدد من القضايا والإشكالات حول المرأة والحريم السياسي والإسلام والذكورة والأنوثة داخل الثقافة العربية المعاصرة وغيرها من الموضوعات التي تجد موطنها الكامل داخل البحث السوسيولوجي بآلياته ومفاهيمه وطبوغرافياته على أرض الواقع، ما يجعل منها مرجعا مهما داخل مدونة البحث السوسيولوجي المغربي خاصة حول قضايا المرأة في علاقتها بالإسلام، عاملة على نقد الأسس الإبستمولوجية، التي رافقت تشكل نظرة العالم الغربي حيال المرأة والحريم السياسي وغيرها من الأطروحات التي قامت على تكريس خطاب دونية المرأة في تاريخ المجتمعات العربية الإسلامية والغربية، وتحريرها من قيود الأفكار المسبقة ومن النظرة الذكورية تجاهها، التي تم تكريسها داخل المجتمعات العربية. ولذلك خصصت المرنيسي سنوات طويلة للبحث والتنقيب والعناية بالمرأة المغربية وأوجاعها داخل عدد من البوادي المغربية، لتجد في داخل العمل الميداني ملاذا آمنا لها في السنوات الأخيرة، نرى فيها المرنيسي متنقلة هنا وهناك داخل مناطق مهمشة من المغرب رفقة نساء يعملن في الفلاحة والخياطة وصناعة الزرابي منذ السبعينيات من خلال العديد من الأبحاث الميدانية نشرت داخل مجلات عربية ودولية محرضة ببراءة وعلمية موزونة قل نظيرها على فهم الجنس كهندسة اجتماعية وليس كإطار سيكولوجي أو تاريخاني، متتبعة في مشروعها السوسيولوجي التصور الإسلامي للموضعة الجنسية منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم، لكن بأدلة علمية وبأسلوب سجالي يقوم على نقد التراث العربي والغربي للمرأة العربية ونظرته إليها كحريم وجارية وغيرها، ما سيجعل بحوثها الأكثر قراءة داخل العالم العربي، ليتم تصنيفها ضمن مائة امرأة الأكثر تأثيرا في العالم حسب صحيفة الغارديان البريطانية.


شهرزاد المغربية
المرأة المغربية في نظر المرنيسي ليست آلة للإنجاب، بل هي جسد وروح وعقل، تحرص دوما على اختيار الأفضل لها، ما جعل المرنيسي أكثر الكاتبات التحاما بالمرأة المغربية وقضاياها الجريحة، إنها شهرزاد المغربية التي لم تتوقف عن الحكي والبحث والتنقيب في المنافي والفيافي من المغرب المهمش، فكان الاشتغال الجمعوي والمدني، كما سبقت الإشارة، منارة وأفقا رحبا لبلورة أفكارها حول المرأة وحقوقها المضطهدة من خلال تحقيقات واستطلاعات ميدانية تنضح بالهاجس المعرفي والإصلاحي، الذي شغل المرنيسي أكثر من نصف قرن،

ما جعلها تتبوأ مكانة مائزة داخل البحث السوسيولوجي لتحصل سنة 2003 على جائزة أستورياس للآداب، وهي أرقى الجوائز الإسبانية التي تمنح لكبار كتاب العالم لمدى ذيوعهم وتأثيرهم في الأنظمة المعرفية والأنساق الفكرية قديما وحديثا وذلك بالمناصفة مع الكاتبة والناقد الأميركية سوزان سونتاغ، وتنضم بعد ذلك كعضوة داخل فريق المفوضية الأوروبية للحوار بين الشعوب والثقافات، وبعدها حازت على جائزة إراسموس الهولندية مناصفة مع المفكر السوري صادق جلال العظم، متوجة مسارها الفكري بالعديد من الكتب والبحوث المتخصصة في هذا الشأن نذكر منها: ما وراء الحجاب، شهرزاد تذهب للغرب، الخوف من الحداثة  الإسلام والديمقراطية، هل أنتم محصنون ضد الحريم؟، الحريم السياسي: النبي والنساء، نساء على أجنحة الحلم، سلطانات منسيات وغيرها من الكتب التي أبانت عن قدرتها الحصيفة في التفكير من داخل النسق الفكري العربي الإسلامي، من دون اللجوء إلى فكر مستلب تسقطه على وضعية المرأة العربية والمغربية.
في كتابها "ما وراء الحجاب:  الجنس كهندسة اجتماعية"، الذي هو في الأصل أطروحة مختصرة  لنيل الدكتوراه في علم الاجتماع العائلي سنة 1973، وهو كتاب عرف ترجمات عديدة كالألمانية والهولندية والفرنسية والأوردية إضافة إلى أصله الإنكليزي، عملت المرنيسي على تفكيك طبيعة وميكانيزمات العلاقة بين الجنسين داخل الثقافة العربية الإسلامية، بحيث أن طبيعة الكتاب وهندسته تبينان بحصافة ضرورة ترجمته إلى اللغة العربية (فاطمة الزهراء أزرويل) لأنه شكل مدخلا أساسيا نحو خطاب علمي بدأت ملامحه الإبستمولوجية تتشكل إبان السبعينيات حول مسألة الجنس داخل الثقافة العربية الإسلامية، هذا الموضوع الذي ظل حكرا على رجال الدين والفقهاء وتحليلاتهم الضبابية للجنس مثل السيوطي والإمام الغزالي وابن داوود والنفزاوي وغيرهم، لكنهم كانوا حقيقة أكثر جرأة منا اليوم، بسبب تشنع وتكلس بنية التفكير والمتخيل للمجتمعات العربية إبان العصر الوسيط، إذ لم يكن من السهل إثارة هذه المسألة نظريا التي مع ذلك تبقى مجرد آراء في الموضوع، نظرا إلى غياب تحليل منطقي وعلمي للموضوع، من ثم جاءت دراسة المرنيسي هذه، تتسم بتسلح علمي يقوم على استلهام المعارف ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة لتفكيك مسألة الجنسانية مراعية التطور السوسيولوجي للمغرب، مقارنة في الفصل الأول من الكتاب بين الإمام الغزالي في كتاب "إحياء علوم الدين" الذي كان غرضه الكشف عن "العقيدة الإسلامية الصحيحة" داخل المجتمع العربي آنذاك وبين سيغموند فرويد الذي كان يشغله بناء وبلورة نظرية علمية خالصة، فقد كان الهدف من تأليف كتاب "ما وراء الحجاب"، حسب المرنيسي، "تقديم قراءة سوسيولوجية للتغيرات التي تعيشها العائلة في المغرب، وبالتالي فإن اعتماد التراث التاريخي والفكري الإسلامي ليس مجرد دعوة إلى الماضي، لأن الاهتمام بالماضي نابع من الرغبة في فهم الحاضر وإضاءته. ولذلك فإن قراءة الماضي لا تكتسب أهميتها إلا من كونها أداة لفرز أشكال التصورات عن العائلة والعلاقة بين الجنسين. إنها لا تطمح إلى منافسة كتابات الفقهاء والمؤرخين بقدرما تهدف إلى تعامل منهجي محدد مع التراث".

قارة مجهولة
فتح الكتاب قارة مجهولة داخل البحث السوسيولوجي المغربي، فهو كتاب لا يجابهه في زخم التحليل إلا كتاب "الإسم العربي الجريح" لعبد الكبير الخطيبي و"المرأة والجنس في المغرب" لعبد الصمد الديالمي و"الفضاء والجسد" لموليم العروسي وغيرها من الكتب السوسيولوجية والأنثروبولوجية التي اشتغلت على الهامش وموضوعاته، محررة الثقافة المغربية من سلفيتها تجاه الهامش وعوالمه.

كتاب المرنيسي يعمل بشكل مزدوج على نقد التراث العربي الإسلامي في نظرته للعلاقة بين المرأة والرجل وما رافق ذلك من أعطاب داخل النسيج الاجتماعي الأسري حول التنشئة من لدن الأسرة، وأيضا النظرة الغربية ومكرها وتسلطها تجاه المرأة العربية وغيرها من الطروحات الفكرية التي لا تظل داخل الكتب، بل تجد موطنها الفعلي اليوم داخل الفضاء العمومي حول الحريات والمساواة والتربية الجنسية، فالكتاب يأتي لزعزعة أفكارنا ونقد أزعوماتنا وأغاليطنا، التي تلقيناها صغارا حول المرأة. ولم يتوقف الأمر عند المرنيسي فقط بل نجد عددا من الفنانات العربيات ممن ولجوا إلى التعبير عن هذه النظرة الاستشراقية للمرأة الشرقية كحريم وجارية تساهم في أغراض جنسية، كما هو الشأن عند الفنانة المغربية المقيمة بالولايات المتحدة الأميركية لالة السيد في لوحتها (Grande Odalisque2) التي تشخص وتحاكي فيها بشكل نقدي لوحة دومينيك إنغر حول "الجارية الكبيرة"، لكن بطريقة أخرى يبدو فيها الجسد مغطى بثوب تزينه خطوط سوداء مبهمة من مادة محلية هي الحناء، تطبعها نظرة "الحشمة" وعزة النفس، فضلا عن العديد من الأعمال الفنية التي قامت على نقد الفن الاستشراقي داخل المشروع الفني المميز للالة السيد، وهذه هي إحدى فتن وسحر الصورة وقيمة الفن عموما وقدرته على احتواء ظواهر هامشية أو مهمشة، قد لا ينتبه إليها الفكر أو التحليلات الفقهية أو حتى العلمية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.