}

عن الترجمة الأدبيّة: ما بين الطلب التجاريّ والمشروع الثقافيّ

أشرف الحساني 7 أبريل 2024
هنا/الآن عن الترجمة الأدبيّة: ما بين الطلب التجاريّ والمشروع الثقافيّ
(Getty)
في السنوات الأخيرة شهدت عملية الترجمة نزوحًا كبيرًا. وذلك بعدما كانت الترجمة عبارة عن عملية حضارية تساهم في تقريب أواصر الصداقة بين الشعوب لدرجةٍ غدت فيها نوعًا من المثاقفة التلقائية التي تتم بين الشعوب والحضارات. لكنّها اليوم أصبحت في معظمها تتّخذ بعدًا تجاريًا يجعل أعمالها أشبه ببضاعة تُنجز تحت الطلب. وتُعدّ الرواية أكثر الأجناس الأدبيّة حضورًا و"توهّجًا" داخل الساحة الثقافية العربية، لدرجةٍ أننا نعثر فيها على عدد من المفكّرين الذين تركوا قلاعهم الفكريّة واتجهوا صوب كتابة الرواية والتفكير في مسائلها ومحكياتها. فهناك من يتعامل مع القالب الروائي كشكلٍ أدبي يمنحه مساحة كبيرة للتعبير، بحكم الإمكانات التعبيرية الهائلة التي تُتيحها مقارنة بالنصّ الفكريّ. وهذا النوع يساهم سنويًا في تقدّم كتابة الرواية، وجعلها تخرج من السياقات الاجتماعية والتعبيرات الوجدانية، صوب كتابة يتقاطع فيها التاريخ بالذاكرة والسياسة بالتفكير. وتأخذ الرواية في هذه الحالة طابعًا فكريًا، لكونها تُحرّر فعل الكتابة من الهواجس الوجدانية المرتبطة بالسيرة وغيرها، فتُصبح الكتابة الروائية بمثابة مختبر أدبي لتكثيف القول ونحت المفاهيم. في حين يتعامل الطرف الثاني مع الرواية باعتبارها لسان حال المرحلة وديوانًا للعرب في المرحلة الراهنة. وهو تصوّر خاطئ يقوم على تغليب جنس على آخر، من دون فهم الأبعاد المعرفية والهواجس التخييلية التي تجعل الكاتب يُقبل على كتابة رواية، أو عمل شعري، أو نصّ فكريّ. إنّ عملية اختيار الجنس الأدبي محكومة في عمقها بالفكرة أكثر من كونها خاضعة للذائقة الشعورية للكاتب، فالفكرة تفرض عليه شكلها ولباسها وزينتها، والطريقة التي بها تُريد أنْ تُصبح وجودًا حقيقيًا يخلق المعنى داخل النصّ.
أمام كثرة ترجمات الرواية من الفرنسية والإنكليزية والإسبانية، ودول أخرى من أميركا اللاتينية، تعيش الثقافة العربيّة فراغًا مهولًا على مستوى ترجمة الفكر، خاصّة في ما يتّصل منه بالشأن الفنيّ، إذْ لا نعثر على مؤلّفات حول التشكيل، والفوتوغرافيا، والسينما، والرقص، والمعمار. وهو فراغٌ يُضمر في جوهره جهلًا حقيقيًا بقيمة الترجمة وأهميتها وطبيعتها ودورها في تحقيق نوعٍ من التوازن بين الأنظمة المعرفية، خاصّة أنّ هناك كثيرًا من المؤلّفات التي يبدو القارئ والدارس والباحث في حاجة إليها أكثر من رواية. فثمّة كُتب تُساعدنا على فهم التحولات العميقة التي يمُر فيها الزمن العاصر في مجالات تتعلّق بالسياسة والمجتمع.
في هذا التحقيق، نقف مع مجموعة من الكتاب من العالم العربي، وذلك من أجل تشريح ظاهرة ترجمة الرواية ونجاحها من عدمها:

خالد زيادة (مؤرخ لبناني):
الرواية كسرت الكثير من الحواجز


يثير التساؤل حول الترجمة إلى العربية من اللغات كثيرًا من الأفكار والتداعيات. ففي الفترة المبكرة من التحديث في العالم العربي، كانت الكتب التي تترجم هي الكتب النافعة للأغراض العسكرية والصناعة. وقد استمر هذا التقليد طالما أن الدولة هي التي تشرف على المؤسسة التي تُعنى بالترجمة. وقد ترجم رفاعة الطهطاوي رواية "مغامرات تليماك" للأديب الفرنسي فينلون، في فترة نفيه إلى السودان. وكان آنذاك يعاني من فراغ، ومع ذلك فإنه اختار عنوانًا للرواية يتناسب مع الذائقة العربية، وأسلوب السجع: "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك". وكانت الترجمات تسير على المنوال نفسه، أي تعريب اللغة، وتعريب المعاني، بما يتناسب مع الذائقة والمشاعر العربية. وهذا ما فعله مصطفى لطفي المنفلوطي.
والواقع أن ترجمة الروايات الأجنبية إلى العربية بقي محدودًا، ففي النصف الأول من القرن العشرين كانت الثقافة العربية مهتمة بالإنتاج الفكري الفلسفي والاجتماعي. فصدرت بعض الترجمات لمؤلفين كبار، أمثال جان ستيورات ملّ الإنكليزي، وغوستاف لوبون، وترجم أحمد لطفي السيد أعمالًا لأرسطو. وكتب محمد حسين هيكل عن جان جاك روسو الفيلسوف. ولو نظرنا إلى المؤلفات الغزيرة التي كتبها سلامة موسى، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، نجد أنها تهتم بنشر الأفكار الأوروبية، والتيارات العلمية والسياسية. وبالرغم من أن طه حسين كان روائيًا وأديبًا، لكننا لا نجد في أعماله الغزيرة اهتمامًا بالرواية الغربية.




وينبغي أن لا ننسى أننا كنا حتى ستينيات القرن العشرين نعيش زمن الشعر، وكان الشعر آنذاك لا يُقرأ فقط، ولكنه يُسمع أيضًا. فكانت أمسيات شعراء أمثال الجواهري العراقي، ونزار قباني السوري، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم المصرييْن، وخليل مطران، والأخطل الصغير، وسعيد عقل، اللبنانيين، تستقطب جمهورًا واسعًا، وصولًا إلى شعراء فلسطين بعد عام 1967.
لقد حدث اهتمام عربي بترجمة الروايات الأوروبية انطلاقًا من بيروت، فقد أخذت بعض دور النشر على عاتقها ترجمة الروايات الحديثة لروائيين معاصرين، أمثال جان بول سارتر الفرنسي، وألبرتو مورافيا الإيطالي، وإرنست همنغواي الأميركي، وفرانز كافكا التشيكي، وكولن ولسون الإنكليزي، وأخذ سامي الدروبي على عاتقه ترجمة دوستويفسكي. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف ترجمة الروايات الأجنبية، وانتقل الاهتمام إلى الرواية اللاتينية، فترجمت أعمال ماركيز، وبورخيس، وماريو فارغاس يوسا، وغيرهم. وتخصصت دور نشر بترجمة الأدباء الحاصلين على جائزة نوبل.
ويمكن أن نلاحظ بأن اتساع نطاق ترجمة الروايات الأجنبية قد ترافق مع ظاهرتين أدبيتين، الأولى: هي تصاعد كتابة الرواية من جانب كتّاب عرب بعد أن كانت الرواية حكرًا على المصريين، قبل أن يصبح لكل بلد عربي روائييه، والثانية: انحسار قراءة الشعر، حتى تحول بعض الشعراء إلى روائيين.
أما لماذا تزدهر ترجمة الرواية على حساب غيرها من المؤلفات الفنية والعلمية، فيعود ذلك في رأيي إلى كون الرواية قد كسرت الحواجز، واستوعبت كل المعارف والتجارب. يمكن للقارئ أن يختار الرواية العاطفية، أو التاريخية، أو النفسية، أو البوليسية، أو الفلسفية، فالرواية تمزج المعرفة بالخيال، وتنتقل عبر الأزمنة لو شاء الروائي. وكل ذلك يحدث من دون عناء من القارئ. استطاعت الرواية أن تخترق المحرمات الدينية والجنسية والسياسية، مع تغاضي السلطات التي لا تبالي طالما أن الرواية لا تشكل خطرًا تحريضيًا، وطالما أنها تتحدث عن مجتمعات أخرى.
أما الكتب الأخرى في الفن والتاريخ والفكر فإن قراءها محدودون في دائرة الاختصاص، ويفضل المتخصصون الجامعيون أن يقرؤوها بلغاتها الأصلية. وتبتعد دور النشر، كونها مؤسسات تجارية، عن ترجمة مثل هذه الأعمال ربما بسبب كلفتها العالية، ومحدودية قرائها.

كه يلان محمد سالار (كاتب عراقي):
الروايات المترجمة تتصدّر سلم "أكثر الكتب مبيعًا"


لا يصحُ الحديثُ عن دور الترجمة من دون رصد تمثلات التحول لدى القارئ نتيجة متابعته للنصوص الأجنبية، حيثُ تبدلت ذائقة القراء ورؤيتهم للأثر الأدبي بموازاة استمرار نقل المؤلفات الأدبية، ولم تعد البلاغة والفخامة اللغوية مؤشرًا على جودة النص، فمواكبة الوقائع والهموم الإنسانية هي ما تشغل اهتمام الكاتب، وهو ما يعمل عليه لاستقطاب جمهور القراء. ومع فاتحة الألفية الجديدة، صار إيقاع التحولات أسرع، كما تم نقل الأعمال الأدبية، وخصوصًا الرواية، بغزارة، وزاد اهتمام القارئ بما يترجمُ، بحيثُ تتصدر الروايات المترجمة سلم "أكثر الكتب مبيعًا" في المعارض. ومما صعّدَ من مستوى تداول الأعمال المترجمة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح المجالُ متاحًا لكل شخصٍ ليعبر عن نظرته، وينشر رأيه، ويناقش غيره حول الظواهر الأدبية. هذا الواقع الجديد لعب دورًا كبيرًا في تشكيل الذائقة المُختلفة.
وإذا كان الناقد العربي يفوتهُ دائمًا إجراء مقارنةٍ بين النص المكتوب بالعربي، وما يترجم، فإنَّ القارئ العادي بدأ يتساءلُ عن المواضع التي تتقاطع فيها المؤلفات المنشورة بالعربية والأعمال المترجمة. صحيح أنه قد تمَّ البحث عن أثر بعض الأدباء العالميين في الروايات العربية، غير أنَّ هذا الموضوع يستدعي دراسة أعمق ومقاربة دقيقة، لأنَّ ما ينقل من اللغة الأخرى لا يبسطُ بظلاله على الأثر الأدبي فحسب، إنما يغير نظرة القارئ وذائقته، وذلك يعد تحديًا بالنسبة للأديب العربي، إذ كلما يتابعُ القارئ منجزه يستدعي تجربته مع النصوص المترجمة. وما يجدر بالذكر في هذا السياق هو التحولات التي يشهدها النص الروائي من حيث الشكل والصياغة، إضافة إلى توالد ثيمات جديدة مرتبطة أكثر بواقع الحياة والتحديات، والتطورات العلمية، بحيثُ يعجنُ الروائي معلومات طبية وبيئية ورقمية في لحمة نصه، الأمر الذي يفرضُ على الناقد مراجعة عدته ومساءلة أدواته، لأنَّ ما كان يعتمدُ عليه سابقًا قد لا يصلح لمقاربة النصوص الحديثة.
زد على ذلك أن قراءة نصوص مترجمة لا بدَّ أن تكون من أوليات الناقد إذا أراد معرفة خطوط التطور في الرواية العربية، لينجزَ قراءة موضوعية للإصدارات الجديدة، ويتفادى الوقوع في شرك التدوير. وما يبعث على التفاؤل في حركة الترجمة هو ازدياد عدد المتخصصين في لغات مختلفة، وهذا يعني عدم الاعتماد على اللغة الوسيطة. وإضافة إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، برز من بين الجيل الجديد مترجمون من الصينية، والكورية، والإيطالية.




كما أن بعض دور النشر العربية بدأت بنقل المؤلفات الأجنبية وفق برنامج مُحكم، كل ذلك يخدم المستوى الثقافي، ويفتح حلقات تواصل جديدة مع العالم بأسره، ويضيف كثيرًا إلى الوسط الأدبي مع توالي الترجمات للمؤلفين المعاصرين، كي لا يعاني القارئ من حالة التكلس والتراوح في دائرة أسماء معينة، إنما يصبح مدار رؤيته أوسع كلما زادت متابعته لعدد أكبر من المؤلفين، خصوصًا لمن يكتبون بغير لغته.

علي سفر (كاتب سوري):
ثمة ميل نحو ترجمة الرواية وترك الشعر


بداية، علينا أن نفرق بين الترجمة الأدبية التي تتم بناء على الطلب التجاري من قبل دور النشر، وبين الترجمة الأدبية التي تنتمي إلى مشروع ثقافي. في الجانب الأول، دور النشر العربية، على العموم، وللأسف، باتت منذ زمن طويل بلا هيئات تحرير تضع خططها وتسعى لتعبئة الفراغات لدى القراء، بل بات أصحابها يعملون ضمن منطق الاستجابة لحاجات السوق، وهذه يتم تحديدها بناء على الدعاية والترويج لهذا الكاتب أو ذاك، وكذلك بناء على الجوائز العالمية المعروفة، كنوبل، والبوكر، وغيرهما.
ولكن حتى في هذا المجال ثمة ميل نحو ترجمة الرواية وترك الشعر، وكذلك عدم الالتفات إلى المسرح، وحين ينال شاعر/ ة جائزة نوبل، فإنه من المتوقع دائمًا ألا تجد ترجمة لأحد أعماله/ ها. ومثال ذلك الشاعرة الأميركية لويز إليزابيث غلوك، وطبعًا لا نستطيع أن نتوسع في قصة تبعية سوق النشر العربية للأسواق الأميركية والأوروبية، مع تركيز على الكتاب البيض، وترك الكتاب الأفارقة والهنود وغيرهم، وهذا ما جرى في حالة الروائي التنزاني البريطاني عبد الرزاق قرنح.
هذه الحالة ليست رديئة فقط، بل تكاد تكون معيبة، لأن الانتقائية، وغياب الاستراتيجيات، لدى دور النشر، تكشف عن غياب المهنية لدى أصحابها عمومًا، وطبعًا يجب ألا نعمم ونقول إن هذه هي الحال بشكل كلي، بل يجب التركيز عمومًا على الإيجابي، ولا سيما مع ظهور دور نشر جديدة قد تصلح ما أفسده السابقون.
وفي الجانب الثاني، فإنه من الواجب أن نعيد إلى الأذهان أن عشرات التجارب الشعرية العالمية قد وصلت للقارئ العربي عبر المشاريع الثقافية التي تبنتها الهيئات الحكومية، ووزارات الثقافة العربية، تاريخيًا، في مصر وسورية والعراق، وكذلك تكفلت مصر والكويت بنقل النص المسرحي العالمي عبر السلاسل الشهيرة. كما نقل السوريون والمصريون مئات المؤلفات حول السينما. لكن هذه المشاريع لا تبنى فقط على نقل الآداب والفنون، بل كانت تتراصف في جهودها مع نشر سلاسل علمية كتلك التي نشرها على سبيل المثال لا الحصر المجلس الأعلى للعلوم في سورية في مرحلة الستينيات والعقود اللاحقة.
لكن هذه الجهود ليست راسخة، بل هي عرضة للاختلال، حيث تتقدم هذه المشاريع في أزمنة، وتتراجع في أزمنة أخرى، ونحن في زمن الانكفاء والتراجع، مع الأسف، ولا سيما بعد هزيمة الثورات، وتقدم الثورات المضادة، التي تقامر بالثقافة، وتخافها، فلا تبذل من أجلها أي جهد. ولولا بضع مؤسسات مغامرة، لكانت حال النشر الفكري والثقافي والبحثي في القاع والعدم.
لهذا يجب التعويل على دور النشر التي ينطلق بها ناشرون شباب، فهؤلاء يمتلكون طاقة وديناميكية مختلفة، وهم يستطيعون التكيف مع الظروف الراهنة (آمل ذلك)، مع الرفعة في المستوى، والمشهدية البانورامية التي لا تتجاهل ثقافات بعيدة، وكذلك إمكانيات مرنة في التعاطي مع أساليب التسويق الإلكتروني، ولهذا يمكن مطالبتهم بألا يقصروا في منتجاتهم على الرواية، ويتركوا الأنواع الأدبية الأخرى.

أحمد عبد الحليم (كاتب مصري):
تريد دور النشر ألّا تخسر في حركة الترجمة الخاصة بها



يمكن القول إنه على المستوى التجاري فإن الاتجاه إلى ترجمة رواية وتسويقها وضمان بيعها أفضل وأسهل، لا سيما بما يتناسب في الوقت الحالي مع تكلفة الورق والنشر الباهظة. لذلك تريد دور النشر ألّا تخسر في حركة الترجمة الخاصة بها. وهذا يرجع أصلًا إلى توجه سوق الشراء العامة إلى الرواية، لأن للرواية جمهورًا أوسع، كونها لا تحتاج سوى للقارئ، سواء أكان قارئًا عاديًّا، أو متخصصًا، على عكس سوق البحث التي تحتاج إلى قارئ أكثر اهتمامًا وتخصصًا. أما من حيث حقوق الترجمة، ومكافأة المترجم، وتخصصات المترجم، فإن ترجمة الروايات أقرب إلى الجمهور، وهي أسهل من ترجمة الأبحاث والدراسات. ولا ننسى أن نشر الأدب حول العالم هو أكثر مقارنةً مع نشر البحوث والدراسات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.