}

"كواليس" على التلفزيون العربي: تاريخٌ بصريّ

أشرف الحساني 2 فبراير 2024
هنا/الآن "كواليس" على التلفزيون العربي: تاريخٌ بصريّ
برنامج "كواليس" يعمل على تمثّل الماضي واستيعاب الحاضر
على مدار سنوات طويلة، اعتاد الناس في معظمهم على معرفة أخبار التاريخ من المصادر المعرفية، والمراجع البحثية، والكتابات المنقوشة، والمسكوكات (علم النقود) ومن الأدب، وغيرها. وفي هذا الأمر ما يُثير الإعجاب بالنسبة للمؤّرخين الذين يرون أنفسهم المصدر الوحيد والحقيقي للمعرفة التاريخيّة، بحكم أنّهم يمتلكون مجموعة من الوثائق والشواهد التي تجعلهم يكتبون التاريخ من وجهة نظرهم. في حين أنّ الكتابة التاريخيّة في شكلها المعاصر، وبسبب وفرة الأرشيفات والوثائق، تبدو معارفها العلمية في تغيّر دائم. فكلّما ظهرت وثيقة تاريخية بين المؤرّخين يعملون على قراءتها وتحليلها وتفكيكها، من أجل الخروج بتحليل دقيق يُساعدهم على إعادة كتابة تاريخٍ جديد. كما أنّ ظهور عدد كبير من اللقى الأثرية في دول عربيّة عديدة يُساهم في تصحيح بعض المعلومات التاريخيّة. وذلك يعود إلى كون الوثيقة الأثرية (حلي، نقوش صخرية، أعمدة) لها مصداقية كبيرة بالنسبة للمؤرّخ، وكأنّه يجد نفسه أمام تاريخٍ حيّ ينبض تحت الأرض. والحق أنّ التعامل مع الوثيقة المادية، باعتبارها شاهدة، يجعل المؤرّخ أسيرًا لها ولتقنياتها وميكانيزماتها. هذا الأمر جعل مدرسة الحوليات (الأنال) مع لوسيان فيبر، ومارك بلوك، وفرناند بروديل (التاريخ الجديد) ينزعون إلى إعادة التفكير في صنعة المؤرّخ وتجديد أدواته في النّظر إلى التاريخ ومدارسه ومذاهبه. هذه الخطوة المنهجية والعلمية التي حققتها الحوليات على المدرسة المنهجية، أو الوضعية، تعدُّ مع كل من لانغوا وسينيوبوس، بمثابة ثورةٍ علمية قويّة، بحيث تم توسيع مفهوم الوثيقة التاريخيّة وإخراجها من طورها المادي صوب وثائق أخرى تتّصل بالآثار، والأدب، والكتابات المنقوشة، والمسكوكات، وغيرها.
وقد ساعد انفتاح التاريخ خلال منتصف القرن التاسع عشر على العلوم الإنسانية، ونظيرتها الاجتماعية، في تكريس حداثة الكتابة التاريخية وأهميتها من أجل خلق تاريخ جديد. بهذه الطريقة، أصبح المؤرّخون يتخلون عن الأحداث السياسية العقيمة التي طالما اعتقدوا أنّها تُساهم في بناء مركزية التاريخ، عبر الانفتاح على التاريخ الاجتماعي، والثقافي، والفني، والاقتصادي. ومنذ تلك اللحظة العلمية الهامّة، عمل المؤرّخون على كتابة تاريخ جديدٍ لبلدانهم، وعلى التفكير في قضايا وإشكالات لم تطرق من قبل داخل المُدوّنة التاريخيّة الغربية. ومع أنّنا قرأنا مؤلفات عديدة تعتمد على مختلف الوثائق التاريخيّة الأخرى، لم نقرأ عن تاريخ يُكتب عبر الصورة وداخل الصورة. بل وإلى حدّ الساعة لا نعثر داخل العالم العربي على كتابة للتاريخ من خلال الصورة وفق منهجية علمية أصيلة، سواء كانت فنية (اللوحة) أو فوتوغرافية أو سينمائية. بحيث إنّ كلّ ما يوجد هو دراسات حول إمكانية تحقّق العلاقة وإمكاناتها من عدمها.




هذا النّمط من التفكير التاريخي، ظلّ حكرًا على الفكر الفلسفي الغربي، في حين بقي مُغيّبًا داخل البحث التاريخي. ولعل دراسات المؤرّخ مارك فيرو حول السينما والتاريخ تُعد من المحاولات التأسيسية الجادّة التي وسّعت النّظر في علاقة المؤرّخ بالصورة. رغم أنّ دراساته بقيت في إطارها النظري، ولم تُحاول أنْ تُبلور تلك الأفكار داخل مؤلف تاريخي تركيبي يستند على النظرية، ويمزجها بتحليل عيني مباشر للأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية في التاريخ الفرنسيّ الحديث منه والمعاصر.
لا تهُمّنا العلاقة بين الصورة والتاريخ إلاّ لتوضيح المقاربة الجماليّة الأصيلة، التي يتبناها برنامج "كواليس" الذي يُبثّ على قناة التلفزيون العربي، والذي يُعدّ من البرامج الهامّة التي تُقدّم جديدًا يُعوّل عليه فنيًا. يُعرّف البرنامج نفسه من خلال عددٍ من حلقاته بأنه "برنامج وثائقي يبحث من خلال الوثائق والشهادات في كواليس التاريخ السياسي، ويعيد بناء صورة الأحداث والمحطات التاريخية، بعد أن بقي جزء من تفاصيلها غائبًا، أو مبهمًا، حتى يومنا هذا". ما يعني أنّ عمل المخرج، هنا، يتجاوز وظيفته كمُخرج مُهتمّ بصناعة فنّية وجماليّة، صوب الحفر والتنقيب في الوثائق والعمل على استقرائها وتحليلها. وهو عملٌ فيه اجتهادٌ كبيرٌ يُضمر عمق الاشتغال المعرفي داخل فريق عمل برنامج "كواليس". كما يُبيّن مدى استيعاب الفريق لعمل المؤرّخ وطريقته في تمثّل الماضي واستيعاب الحاضر، انطلاقًا من وثائق وشواهد. غير أنّ البرنامج لا يهتمّ بالتاريخ المعتّق في جرار الزمن، بقدر ما يعمل على رصد محطّات أساسية من التاريخ السياسي العربي. ويتخصّص البرنامج في تسليط الضوء على مراحل تاريخيّة غلبها الكسل العلمي، بحكم حساسيتها السياسية التي تجعل المؤرّخين ينفضّون عنها. إذْ إنه يرصد عددًا من المحطّات المبهمة في التاريخ العربي المعاصر، وفق شهادات عينية من أشخاص ساهموا بطريقة مباشرة في صناعة بعضٍ من هذا التاريخ. في حلقة "صدام حسين... سقوط حتمي"، مثلًا، يستشكل الفيلم الوثائقي أغوار أسباب انهيار الجيش العراقي إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003 خلال فترة حكم صدام حسين. وذلك من خلال وثائق وشهادات لمجموعة من الضباط والمسؤولين في صناعة القرارات داخل الجيش الأميركي ونظيره العراقي، ما يعني أنّنا أمام سلسلة وثائقية تتجاوز عملية تقديم المعلومات الأكاديميّة، أو تشغل نفسها من جديد بإعادة تعريف الأحداث السياسية والعسكرية، بل تُقدّم وعيًا دقيقًا بمفهوم الصورة الوثائقية وكيف تنزع صوب التنقيب. إنّ الوثائقي لا يُقدّم أجوبة جاهزة عن الساعات الأخيرة قبيل سقوط صدام حسين بقدر ما يطرح الأسئلة الحرجة التي لا يقوى المؤرّخ على طرحها. وبالتالي، فإنّ سلسلة "كواليس" تعمل على الضغط أكثر على الجُرح، عبر طرح أسئلةٍ حرجة، تقود المتفرّج شيئًا فشيئًا إلى الاهتداء صوب الحقيقة المغيّبة في التاريخ السياسي العراقي. نحن هنا أمام كتابة جديدة للتاريخ، كتابة لا تعتمد المفاهيم والنظريات والمناهج بقدر ما تتدفّق مثل شلال في ذهن المُتفرّج.



على هذا الأساس، ينفرد "كواليس" بمنزلةٍ رفيعة ومرموقة داخل فسيفساء التلفزيون العربي. بل إنّه يُقدّم معرفة أصيلة بالصناعة التلفزيونية، وما ينبغي أنْ تكون عليه اليوم، أمام الاستسهال الكبير الذي بات يطبعها داخل العالم العربي. ففي كثير من المرّات، تبدو البرامج مُكرّرة، ويغلب عليها التنميط البصري، أو الاستلاب الغربي. في حين يُقدّم لنا "كواليس" خلطة بصريّة متنوّعة، بين محتوى معرفي أصيل ممزوجٍ بحلّة حديثة وقالب فني معاصر. وفي الوقت الذي لا تُراهن فيه البرامج التلفزيونية العربيّة على المحتويات المعرفية وعوالمها الثقافية المتعلّقة بميادين السياسة والتاريخ والثقافة، يأتي التلفزيون العربي في مجمل أدائه ليُقدمّ رؤية خالصة لما ينبغي أن يكون عليه مفهوم التلفزيون اليوم. ذلك أنّ البرنامج لا يُطارد العابر من الكلام السياسي المباح، أو يتصيّد تحليلًا عابرًا في الجرائد والقنوات، بل إنّه يبني عبر الوثائق التاريخية والشواهد الإنسانية معرفة جديدة ببعض قضايا هذا التاريخ، ويقوم بتقديمها في حلّة جمالية معاصرة. إنّ التاريخ حين يُحوّل إلى صورة يُصبح ضربًا من الإبداع، لكنْ ليس بطريقة تغدو فيها المعرفة "تخييلية"، وإنّما نقصد الاجتهاد في تقديم روايات حقيقية وسرديات سياسيّة مبنية على العلم والمنطق. لهذا تُتيح مشاهدة "كواليس" فرجة ممتعة لا ترهن نفسها بالترفيه، ولكنْ بالتفكير في تاريخنا السياسي المُغيّب، على خلفيات كواليس سياسية وأحداث اجتماعية ووثائق تاريخية جديدة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.