انطلاق مؤتمر "العلوم الاجتماعية والإنسانية" بالدوحة: الأخلاق وهجرة الشباب
العربي الجديد ــ الدوحة




بدأت في الدوحة، اليوم السبت، أعمال المؤتمر السنوي السادس للعلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ويستمر لمدة ثلاثة أيام، ويجري في ختامه إعلان نتائج الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية.

وانطلقت أعمال المؤتمر بمحاضرتين رئيستين تطرحان الإشكالات المهمة التي تتناولها أوراق الباحثين في الموضوع الأول للمؤتمر "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية"، وتناول الدكتور فهمي جدعان في محاضرة افتتاحية، تحت عنوان "مركب أخلاقي حديث للاجتماع العربي"، عدة مسائل متعلقة بما أفرزته التطورات الكونية من أفعال وقيمٍ جديدة كليا، تفرض تجاوز الأخلاق الكلاسيكية التي حكمت العديد من الظواهر الإنسانية. فطرح السؤال الأخلاقي اليوم يستوجب  مدونة أخلاقية معززة بسياسات مرتبطة بسيادة القانون.

وأكد جدعان أن التطورات العلمية في البيئة والتنمية الاقتصادية المحكومة بالرأسمالية والبيولوجيا، باتت تنذر بتغيير الإنسان والسياسي الذي يستخدم القوة والهيمنة التي تضرب عمق الذائقة البشرية. ومقابل ذلك تظهر قيم جديدة لا سبيل لتجاهلها: الحرية، العدالة، المساواة، الكرامة الإنسانية، المسؤولية، وغيرها. إزاء كل هذا يثور السؤال الأخلاقي بقوة، وبدون أن يقطع مع معاني الخير والشر والسعادة التي كانت وما تزال الموضوع الرئيس للأخلاق النظرية، وتُطرح أسئلة أخلاقية من قبيل: إلى أي مدى يخضع الممارس الطبي للمساءلة؟ وهل تتم المحاسبة في الأمور المتعلقة بالمخالفات الأخلاقية؟ ماذا عن الاستغلال والتمييز بين الجنسين؟ هل يلتزم الإعلاميون والساسة بالأخلاق؟ هل ثمة التزام بأخلاق مهنية ومدونة سلوك في الأمور الاجتماعية والسياسية والإعلامية والتنمية؟

وخلص إلى أن التجليات الجديدة للعالم تفرض إعداد مدوّنة سلوك أخلاقية صريحة معززة بالقانون وبسياسات الدفاع الاجتماعي. ولا يكفي أن يقال إن الضمير أو الدين يمنعان من هذه الإساءات. وكذلك لا يستقيم القول إن منظومة "الأخلاق المطبقة" ليست إلا إحدى "بدع الحداثة" البشرية العقلية، وإن الأجدى للمجتمعات العربية استنطاق النصوص الدينية لتجد كل هذه الاختلالات أحكامها المطابقة في النصوص.



من جهته، قدم الدكتور جورج زيناتي محاضرة تحت عنوان "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية-الإسلامية وبعض قضاياه في عصر العولمة". وتناول استلام الحضارة العربية الإسلامية لمهمة البناء المعرفي الإنساني في أعقاب انهيار روما وإمبراطورية الشرق (القسطنطينية). وانطلق المحاضر من إسهامات ابن باجة وابن طفيل، وتأثيرهما في الغرب والتنظير للفردانية الغربية، التي جاءت مع الرأسمالية الصناعية. وانتقل بعد ذلك لمناقشة الإشكالات القيمية والأخلاقية التي جاءت بها العولمة التي استبدلت الثورة الصناعية بالرأسمالية المالية، وهيمنة عالم التواصل والحضارة الرقمية، وهذا ما خلق مشاكل جديدة تهم كل مستقبل البشرية.

 وتوقف عند قضايا البيئة من تلوث واحترار مناخي، ثم انتقل إلى مشكلة بدأ العلماء يطرحون خطورتها وهي دور الذكاء الاصطناعي والروبوتات والوجه المظلم الخطير الذي قد يواجه الإنسانية. وتطرق لبعض الأسباب التي شكلت عائقًا أمام نجاح الأنظمة العربية في إنجاز ديمقراطيتها، ونبه أولًا إلى الوقائع التاريخية وكيف أنها تطرح مشكلة الزمان التي أهملتها تمامًا حضارة التواصل والثورة الرقمية. فإلغاء المسافات لا يعني إلغاء الماضي وترسباته وأحقاده.

وقال إن "العقل يتقدم من دون اعتبار أخلاقي فيجد السدود أمامه، إذ إن ماضي البشرية هو عبارة عن حروب متلاحقة وصراعات لا تنتهي، ولا بد من خلق ذاكرة سعيدة للبشرية، كل البشرية فإنسانيتنا تجمعنا كلنا"، غير أن إرادة الهيمنة تشكل دومًا بؤرة مفتوحة لصراعات متجددة. وخلص إلى أن ديالكتيك الاستقرار والتقدم وحده يفتح أبواب المستقبل ويتغلب على أشكال العنف غير المبرر، إذن الأمل يبقى ويتجدد ولا يموت، لأن النور يبدد دومًا كل ظلامية.

وناقشت الأوراق البحثية المقدمة في جلسات اليوم الأول من المؤتمر العديد من المسائل وقدمها عدد من الباحثين من مختلف الأقطار العربية، وبينهم نسبة كبيرة من الباحثين الشباب. وخصصت الجلسة الأولى في محور "سؤال الأخلاق" لموضوع "الأخلاق الإسلامية وأسئلة الحداثة"، فيما تناولت الجلسة الثانية قضية علمية وطبية مهمة إذ ناقشت "الجينوم وسؤال الأخلاق من منظور إسلامي"، وطرحت أوراق الجلسة الثالثة "سؤال الأخلاق في الفلسفة الإسلامية" والجلسة الرابعة "سؤال الأخلاق في المدونات الفقهية والصوفية".

أما جلسات المحور المتعلق بمحور "الشباب العربي والهجرة" فقد خصصت أولاها لموضوع "الهجرة والجندر: هجرة الفتاة العربية"، والثانية لموضوع "الشباب العربي وأسئلة الهجرة الطلابية"، والثالثة لموضوع "الهجرة الخارجية للشباب العربي: الإشكالية الاجتماعية والثقافية". وتناولت الجلسة الرابعة والأخيرة من برنامج اليوم الأول في هذا المحور موضوع "هجرة الكفاءات العربية والهجرة العائدة".

وعن أسباب اختيار" سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية"، قال رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر جمال باروت، إن هذا الموضوع لم يدرس بشكل واف في السابق، وإن إعادة طرحه تنبع من الحاجة السياسية والاجتماعية للأمة العربية والإسلامية لإعادة بناء نفسها وإدارة  الصراعات الجارية فيما بينها بمستوى أخلاقي لا تحيد عنه.

وأضاف أن المؤتمر محاولة لدراسة وإعادة اكتشاف الجانب الأخلاقي في الحضارة العربية الإسلامية ودعوة لإعادة تجذيره من جديد في ضوء حاجات المجتمعات العربية واندماجها وتخطي الصعوبات التي تواجهها في هذا الظرف

وحول موضوع  "هجرة الشباب"،  قال إنه فرض نفسه من جديد، بعد أن لاحظ المركز أن ما لا يقل عن 24  في المائة من الشباب العرب يرغبون بالهجرة، ولهذا يبحث المؤتمر العلاقة بين الهجرة والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، والهجرة الناتجة عن النزاعات والأزمات التي تعيشها عدد من البلدان العربية، ومحاولة إعادة طرح هذه الإشكالية بما يخدم خطط إعادة بناء التنمية، التي تسعى إليها الشعوب العربية والتي يعد الشباب قوة رئيسة فيها.

وشارك نحو 400 باحث عربي في دورات مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية (بما فيها الدورة الحالية)، وهم أساتذة وباحثون في الجامعات العربية والغربية ومؤسّسات البحث العلمي العربي، ومن مختلف البلدان العربية، وهو ما يعكس بحسب رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر الباحث جمال باروت توسعًا كميًا ونوعيًا كرّسه المركز تقليدًا له في إطار سعي إلى المساهمة في رفع المستوى العلمي للبحث العربي في مجال الإنسانيات والاجتماعيات.