Skip to main content
الكتاب في غزة... عقبات إسرائيلية ومادية
أحمد الحاج أحمد ــ غزة
النساء الفلسطينيات يقرأن أكثر من الرجال (Getty)
يبدو أن قدر الأشياء في غزة سياسي لا محالة، سواء في تفاصيل الحياة الواقعة تحت سطوة السياسة، أو المعركة التي لا تنتهي مع الاحتلال، وعليه فإن الكتاب أيضاً يدور في نفس الدائرة، بوصفه سلعة تتحكم فيها إسرائيل، كما باقي السلع التي تحتاجها غزة، والتي قد تمنع دخولها في أي وقت. وأيضاً، لأنه مادة فكرية، تنشر ثقافة المقاومة، وتثقف الجمهور في ما يتعلق بالقضية الوطنية. وأخيرا، بوصفه مكونا يدخل في التصنيع العسكري، كما يقول الإسرائيليون، فهناك محاليل تدخل في صناعة الكتاب والسلاح.

هكذا يمر الكتاب عبر سلسلة إسرائيلية قاسية الشروط، في ما يتعلق بدخوله قطاع غزة، وبإنتاجه وطباعته داخل القطاع، ومراقبة العناوين والمحتوى.

على سبيل المثال، أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منتصف العام الماضي على مصادرة مائة نسخة من كتاب "الأسرى الفلسطينيون: آلام وآمال"، للمؤلف عبد الناصر فروانة، وهي في طريقها من مصر إلى فلسطين عبر معبر العوجة التجاري، إذ أوقفت الرقابة العسكرية الإسرائيلية في المعبر شحنة كبيرة من الكتب والمطبوعات واحتجزتها لبضعة أيام، لتفتيشها ومراجعتها والاطلاع عليها، ثم أبلغت شركة الشحن بمصادرة جميع نسخ الكتاب المذكور.

وبررت الرقابة الإسرائيلية لشركة النقل بأن الكتاب يحتوي على منشورات ممنوعة ومحظورة، ويشكل مادة تحريضية يمنع دخولها إلى الأراضي الفلسطينية، وفرضت غرامة مالية وإجراءات عقابية على الشركة وصاحبها. الكتاب صدر عن قطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة بجامعة الدول العربية، ويسلط الضوء على ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيون من انتهاكات وجرائم إنسانية، فضلا عن عشرات الشهادات الحية.

عقبات كثيرة
وعلى صعيد مكونات صناعة الكتاب داخل القطاع، تتواجد عقبات كبيرة نتجت عن الحصار وتبعاته الاقتصادية، مثل أن العمل في المطابع أمر موسمي، فالقطاع يعاني من فترة ركود اقتصادي، الأمر الذي ينعكس بقوة على عمل وإنتاج المطابع، كما أن مشكلة انقطاع التيار الكهربائي وزيادة تكاليف تشغيل المطابع أدت إلى زيادة العبء والتكلفة المالية على المطبعة، مما أدى إلى رفع المطابع لأسعارها عن السابق، وبالتالي عزوف الكثير من المتعاملين معها. فالكثيرون عزفوا عن الاستعانة بالمطابع المحلية ليس بسبب قلة الجودة بل بسبب السعر، الذي يكون مرتفعاً لأسباب تتعلق بالتيار الكهربائي، وارتفاع تكلفة الأيدي العاملة التي قد تضطر إلى العمل في فترات المساء بسبب الكهرباء.هذا عدا عن منع إدخال المكنات والحبر على اعتبار أنها مواد خطرة، فأصبحت تدخل عبر الأنفاق ولكن بجودة غير خاضعة للمواصفات والمقاييس.

وتباع الكميات المحدودة من ورق A4 المتوفرة في المكتبات في القطاع بأسعار مضاعفة، كما أن أسعار الحديد الذي يستخدم للبناء فاقت أسعار الذهب، في إشارة رمزية إلى الارتفاع الجنوني في الأسعار بسبب عدم دخول كميات معقولة من البضائع إلى القطاع عبر المعابر المغلقة، التي تتحكم فيها السلطات الإسرائيلية. ومنذ الحصار الذي فرض على القطاع انحدرت الأوضاع الاقتصادية إلى وضع لم يسبق له مثيل، وشهدت الكثير من الحاجيات الأساسية للسكان ارتفاعاً كبيراً لا يتناسب مع قدرة غالبية المجتمع الغزي المادية. غير أن مشكلة الورق التي يعاني منها القطاع تظل إحدى التبعات الأكثر سلبية على شريحة كبيرة من السكان خاصة مع بدء العام الدراسي. كما أن وزارة التربية والتعليم صرحت بأن إغلاق المعابر أدى إلى نقص الورق الخاص بطباعة الكتب المدرسية. وأكدت أن هناك طلبة استلموا كتبا قديمة، كما تحدث أولياء أمور طلبة عن انعكاسات سلبية على نفسية أبنائهم، الذين استلموا كتبا مدرسية قديمة.

توجهات القراءة
ولا تتوفر دراسات وإحصائيات في ما يتعلق باتجاهات القراءة في الوطن العربي بشكل عام، وكذلك الحال في قطاع غزة، لذا توجهنا إلى الجمهور القارئ، وسألنا عن القراءة الحرة والقراءة للأطفال والإنفاق على القراءة، وعدد الكتب المقروءة وعلاقته بالدخل، وغير ذلك من قضايا توضح اتجاهات القراءة والتعامل مع الكتاب.

نسبة متوسطة من الكبار تهتم بالقراءة الحرة وتنميتها لدى أطفالهم، والهدف من وراء القراءة الحرة تمضية الوقت والحصول على معلومة أو إنجاز مهمة. كما أن انتشار التكنولوجيا زاد من معدل قراءتهم، بحيث أن متوسط المدة الزمنية للقراءة عند الكبار ساعة ونصف الساعة تقريبا يوميا، فيما عدا الوقت المخصص لقراءة القرآن الكريم، إذ إن غالبية المواطنين الغزيين، حتى غير القارئين منهم، يقرأون القرآن بشكل يومي تقريبا، إلا أن الكفة رجحت لصالح النساء في هذا الأمر. ولا ننسى وجود علاقة بين الدخل وعدد الكتب التي تُقرأ في العام الواحد، إذ كلما زاد الدخل زادت نسبة من يقرأون، وبشكل عام فإن الإنفاق على القراءة في قطاع غزة محدود جدا ويكاد ينعدم، بسبب قلة الدخل والانشغال بتوفير الحاجيات الأساسية، لذلك تجد زوار معارض الكتب محدودين، وإن تواجدوا بكثرة فالهدف الفرجة وليس الشراء.

وتشكل الكتب الدينية أكثر المواضيع التي تحظى باهتمام كبير لدى الجمهور الغزي، ثم تأتي القصص والروايات في المرتبة الثانية، ومن بعدها الرياضية، ثم الألغاز والمسابقات والكتب السياسية، ومواضيع التنمية البشرية والموسوعات ودوائر المعارف والمشاريع الصغيرة والإدارة والأكاديمية. بينما اللغة العربية هي اللغة المفضَّلة بدرجة كبيرة للقراءة، ثم الكتب باللغتين (العربية/ الإنجليزية).


الكتب بين شد وجذب
الواقع الميداني لمكتبات قطاع غزة يكشف عمق المأساة والمجزرة، التي تعرض لها الكتاب في غزة المحاصرة، فلا مجلات عربية أو أجنبية، ولا صحف، ولا روايات عربية وعالمية، ولا أبحاث ودراسات، ولا إصدارات حديثة.

خميس أبو شعبان، صاحب المكتبة الهاشمية، وقف داخل مكتبته التي تعد من أعرق المكتبات في غزة، فقد تأسست عام 1942 وكانت ملاذا للكتاب والمثقفين، وقال: "لم نكن نتوقع أن نصل إلى هذا الوضع، فمنذ عشرة شهور لم يصلنا أي كتاب أو إصدار جديد، كما أن الصحف المصرية والعربية التي نحن وكلاؤها، لم نتمكن من رؤيتها منذ فرض الحصار، بتنا نترقب الفرج".

وزارة الثقافة من جانبها قالت: لا يمكن وصف وضع الكتاب في غزة أمام احتلال قاس بأنه وضع سعيد، فمن المعروف تاريخياً أن القارئ الغزي أيام الاحتلال كان يحرص على الكتاب وكأنه من المهربات، وعند قيام السلطة الفلسطينية أنشأت فوراً معرضاً للكتاب، وأقبل المواطنون على اقتناء الكتب بصورة مذهلة حتى أننا لا نمل من ترديد ما قاله الحاج مدبولي، وهو أحد أشهر الموزعين العرب، بأنه باع في معرض غزة أكثر مما باع في معرض القاهرة، وقد كان الاحتلال بالمرصاد لهذه الظاهرة، ففي المعارض التالية أحكم طوقه وتقييده لحرية الكتاب، ومع ذلك بقي معرض الكتاب السنوي الذي يقام سنة في غزة وسنة في الضفة يلعب مع الاحتلال لعبة "القط والفأر".

طلبة الجامعات والدراسات العليا باتوا في حالة يرثى لها، ويتجرعون مرارة الألم والحسرة، فلا هم قادرون على إكمال بحوث الماجستير التي بدأوها بسبب نقص المراجع، ولا هم قادرون على الخروج من سجن القطاع لينقبوا بأنفسهم عما يحتاجون، كما يصرح طلاب رسالة الماجستير في قسم الدراسات العربية.

حاتم إبراهيم اليازجي، مدير مكتبة اليازجي للطباعة والنشر، وهي من أكبر المكتبات في قطاع غزة قال: "إن الحصار أثر على المكتبات والكتب مثل باقي القطاعات المتضررة، وإنه لم يتمكن لفترة طويلة من استيراد أي كتاب".

وأضاف اليازجي:"هناك أسئلة متكررة من كتاب ومثقفين وباحثين عن كتب، ولكن للأسف الشديد لا نتمكن من تلبية رغباتهم، خاصة من الكتب المنشورة حديثاً"، موضحا أن المثقفين والقُراء يُصابون بخيبة كبيـرة لدى اصطدامهم بلافتة: عفوا.. لا يُوجـد. "لقد خسرنا الكثير من المعارض الخارجية، كما أن أجنحتنا في المعارض في عدد من الدول أغلقت بسبب عدم قدرتنا على المشاركة جراء الحصار. كنا نواكب أحدث إصدارات دور النشر، نذهب لمعارض الكتاب في شتـى العواصم العربيـة، ولكن للأسف الحصار كتم أنفاسنا ومنعتنا المعابر المُغلقة من الخروج. المرة الوحيدة، التي تمكنا فيها من إدخال الكتب، كانت عند إزالة الجدار على الحدود مع مصر حيث أحضرنا على الأكتاف مجموعة من الكتب تعرضت معظمها للتلف بسبب الأمطار وصعوبة التنقل. إغلاق الحدود في وجه الكتب انعكس سلبا على واقع المُثقفين والطلبـة، وعلامات القهر والغيظ ترتسم على وجوههم حتى أنهم يصرخون بغضب ويطالبوننا بإحضار الكتب ولو عبـر الأنفاق".

ولفت إلى أن "الاعتماد على القراءة الإلكترونية لن يشفي غليل القُراء، فغـزة المُحاصرة تعاني من قطع الكهرباء المستمر، ثم إن القراءة الورقيـة لها سحرها الخاص وما يُميزها عن منافستها، والأهم أن الكُتب الجديدة لا تُنشر عبر الإنترنت فور صدورها بل تأخذ فترة طويلة".

وأكد عاطف الدرة، صاحب دار الكلمة للنشر والتوزيع، ارتفاع أسعار الكتب مقارنة بالوضع المادي والاقتصادي الصعب لسكان القطاع، معتبراً أن هذا سبب من ضمن عدة أسباب تحول دون إقبال الطلاب والمواطنين على شراء الكتب وقراءتها، لكنه نفى أن يكون السبب الرئيسي.

وأشار إلى وجود جملة من الأسباب الأخرى، التي تحد من إقبال المواطنين على الشراء، منها الجهل العام بثقافة قراءة الكتب لغياب الاهتمام الرسمي.

وشدد الدرة على أهمية إلغاء الضريبة والجمارك المفروضة على الكتب لخفض أسعارها، وبالتالي زيادة فرصة وقدرة المواطنين على شرائها، وأوضح أن أغلب المبيعات تتركز على الكتب الإسلامية والروايات وكتب التنمية البشرية.

المزيد في ثقافة