غزّة بين نار الاحتلال وصراعات المجتمع الداخليّ

غزّة بين نار الاحتلال وصراعات المجتمع الداخليّ

07 ديسمبر 2015
(الدوحة: دار بلومزبري/ مؤسسة قطر للنشر، 2015)
+ الخط -

تقدّم المؤلّفة لروايتها بملحوظات، أوّلها أن "هذه الرواية عمل إبداعيّ من وحي الخيال، ولا تمثّل الشخصيّات فيها أيّ فردٍ حَيّ أو ميت".

هذه العبارة/ الملاحظة جديرة بالانتباه والاهتمام كونها محاولة لنفي "واقعيّة" الرواية، أو "توثيقيّتها"، رغم أنّنا حيال رواية تؤكد المؤلفة في ملحوظاتها أنها مدينة فيها "للعديد من الأعمال الواقعية بأشكالها المختلفة، من كتب ووثائقيات ومواقع شخصية على الإنترنت، لما وفرته لي من مادة ساعدتني على الوصف وإثراء السرد"، ومن بين من اتّكأتْ الكاتبة عليهم "رشيد ووليد الخالدي، نور مصالحة، إيلان بابي، والراحل العظيم إدوارد سعيد"، أي أننا حيال عمل واقعيّ وإشكاليّ، يستخدم كل أساليب التخييل والرسم الفانتازي لبعض الشخصيات والمَشاهد التي سنعرض بعضها هنا، ولو بقدر كبير من الاختزال.

ابتداء، فالرواية لكاتبة فلسطينية- بريطانية سلمى دباغ، وترجمة خلود عمرو، وقد بدأت في كتابتها (كما أخبرتنا هي في حديث خاص معها) في العام 2003، وهي تتناول، من بين قضايا عدة، حياتية ووطنية/ نضاليّة وثقافية، في شأن غزة، قضية "المقاومة" في صورها وأشكالها المتعددة، ومن وجهات نظر متباينة حدّ التناقض، بين مؤيد ومعارض، بين يساريّ وإسلاميّ ومستقلّ، ولكن من دون منح التيارات المتعارضة أسماء واقعية، أو أسماءها في الواقع، فهي تلجأ إلى منح أسماء مثل "حزبنا" و"زعيمنا" وما يحيل، من خلال إشارات ذكية، إلى هذا الفصيل أو تلك الشخصية القيادية.

فمن خلال عدد من الشخصيات، تنقلنا الكاتبة من غزة إلى لندن ودولة الإمارات، لنقرأ صوَرا من الحياة والعلاقات والجدل القائم، في الداخل والخارج، حول غزة، وأشكال المعاناة بسبب الحصار والاجتياحات والتدمير، وهي وقائع ربما كانت معروفة، بل مألوفة لمن يتابع أحوال غزة في وسائل الإعلام، لكنها هنا، وعبر شخصيات من لحم ودم ومشاعر وعواطف، تظهر في أكثر تجلياتها صدقيّة وقربا من الواقع، وقدرة على تعرية المجتمع "الغَزّيّ" من داخله، وعلى مستويات تشمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، وما بين هذه المستويات من تداخل وتأثيرات.

شخصيّات وتحوّلات

منذ المشهد الأول في الرواية، نجد أنفسنا حيال شخصية "رشيد" المُدمن على الحشيش، من خلال تصويره وقد تلقّى رسالة إلكترونية يعتقد هو أنها "غيَّرت كلَّ شيء" في حياته، في لحظة "بدأت الانفجارات"، وحيث كان "إحساسه بكل شيء تضخم، أصبح أكثر حدّة. سرى في أوصاله خدرٌ لذيذٌ، تكرمت عليه به وريقات غلوريا، نبتة الحشيش، عزيزته التي يرعاها بدلال في غرفته". وسوف نتابع هذه الشخصية في لندن حيث المنحة للحصول على الماجستير، لكنّ ظروفا وملابسات تجري، أهمّها خراب علاقته مع عشيقته ليزا البريطانية المتعاطفة مع الغزّيين، فيضطر للعودة إلى غزة.

وفي مشهد "تراجيكوميديّ"، نرى رشيد في حالة تحشيش مرعبة، حيث "فجأة استبدّت به الوساوس. كانت الشاحنات مسرعة لأنها تطارده هو: رشيد؛ وكان المسلحون منتشرين في كل مكان بحثا عنه هو: رشيد؛ الأشلاء التي تتبعثر في السماء له هو: رشيد..". لكن رشيد هذا يظهر أيضا كاشفا عن تاريخ فلسطين القديم، حين "يمّم وجهه شطر المدينة من جديد، وسلك دربا آخر يحاذي أراضيَ زراعية. ثمّة بيوت بلاستيكية تعصف بها الريح، أرضٌ محروثة بمعدات قديمة تقليدية، بل موغلة في قدمها، تعود إلى زمن الفراعنة وبلاد ما بين النهرين".

الشخصيّة الأبرز في الرواية هي "إيمان مجاهد"، الشقيقة التوأم لرشيد، وابنة مناضل سابق يعيش في الإمارات، ووالدتها "جيهان" الشهيرة بخطف الطائرات (الحديث هنا عن دور النساء في عمليات الاختطاف التي نفذتها الجبهة في السبعينات). وإيمان ناشطة اجتماعيا، تتعرض لضغوط من جماعة إسلامية بهدف ضمّها إلى "الفتيات الانتحاريات"، وتكاد تنخرط لكنها تنجو عبر ضغوطات مناضل في حزب السلطة، وتسافر إلى والدها ثم إلى لندن، فتشهد علاقات وتقلبات، قبل عودتها إلى غزة في نهايات الرواية. ومن خلال هذه الشخصية وسلوكها وحواراتها، نقف على الجدل القائم حول "جدوى" النشاط الاجتماعي ودعم المؤسسات الدولية، من جهة، و"جدوى" العمل المسلّح، وخصوصا في بعض أشكاله "المدمّرة"، من جهة ثانية.

وفي تشخيصها لصور من معاناة المرأة خصوصا، ولتبرز التمييز بين "فئات" الفلسطينيين، تعمد الكاتبة إلى أسلوب الصدمة لبناء شخصية إيمان العائدة من الدراسة في السويد، فتصفها قائلة لقد "أدركتْ أنها بالنسبة لهنّ (تعني اللجنة النسائية) فلسطينية من الشتات، من الخارج، من العائدين، لذلك فهي لا تستحق حتى مجرد إبداء الرأي في ما يجري في غزة". ومن بين همومها، الشكوى من عمل في "مركز للمقعدين في الدور الثالث من بناية ليس فيها مصعد". كذلك الأمر في محور التمييز "الجنسويّ" (رجل/ امرأة)، في ما يخص شغفها واستمتاعها بما يعتبر "الخليع من الشعر الجاهلي!"، فتردّ بأن "الخوض في هذه المسألة بالنسبة لك كرجل أمر مقبول لا يكترث له أحد".

ومما يستحق وقفة سريعة، تلك الانتقادات اللاذعة الموجّهة إلى الفساد في السلطة، عبر التوبيخ لأحد القياديين "يسألونه عن النسبة الشهرية التي كانت تقتطع من مرتباتهم دعما للقضية: أولادك إذًا درسوا في مدارس سويسرا؟ أما نحن فتعطلت دراسة أولادنا وطردنا من بيوتنا في الكويت بسبب قيادتك؟ أين نسبة الخمسة في المئة إذًا؟ أضعتموها في لعب القمار في كازينوهات موناكو، أليس كذلك؟ بعد كل كدّنا وكدحنا تُركنا مع عائلاتنا نتعفن في مخيمات اللاجئين".

حديث مع المؤلِّفة

نتوقف، أخيرا، مع انطباع "أوليّ" قد يتكوّن لدى قارئ الرواية، يتعلق بالموقف من المقاومة المسلحة عموما، والإسلامية منها خصوصا، إذ يبدو أن ثمّة فهما ملتبسا للعلاقة بين عمليات المقاومة من جهة، وبين الاعتداءات "الإسرائيلية" على غزة من جهة مقابلة، وهو فهم يتضمن القول إن نوعا أو شكلا محددا من هذه العمليات يعطي الذريعة للقيادة الإسرائيلية كي تمارس هجومها على الشعب ومؤسساته وممتلكاته (تدمير مستشفى مثلا) في غزة.

ولتوضيح هذا الانطباع واللبس الناجم عنه، أجرينا حديثا قصيرا مع المؤلفة سلمى الدبّاغ، وكان السؤال "هل تريد الرواية، والمؤلفة من ورائها، إعطاء الانطباع بأن المقاومة وعملياتها هي التي تبرر، أو تعطي الذريعة لإسرائيل لمهاجمة غزة؟"، وجاءت إجابة المؤلفة (بالإنجليزية، فهي لا تجيد العربية لا قراءة ولا كتابة) لتنفي هذا الانطباع، معبّرة عن شعورها بـ"الكارثة" إذا ما كانت الرواية تتيح مثل هذا الفهم الخاطئ.

وبسؤالها عن عبارة محددة وردت على لسان عدد من شخوص الرواية، لوصف عملية "انتحارية" قامت بها فتاة من عائلة" الحجّار"، وتبعتها هجمة إسرائيلية أدت إلى تدمير مستشفى، بأنها "عملية غبية". أو تفسيرها لما نقرأ في الفصل الخامس "هل سمعت؟ إنها من عائلة الحجّار؟ يا لها من فتاة غبيّة! قدمت لهؤلاء الأوغاد ذريعة لقصف المستشفى"، وتتكرّر العبارة في صورة أخرى، في الفصل التاسع "كانوا في انتظار أي ذريعة لفرض الإغلاق على القطاع وقصفه، بنت الحجّار ناولتهم إياها على طبق من فضة"، وفي صورة ثالثة في الفصل الثالث عشر "هل رأيتِ كيف سوّغ العدو، العدو الذي يجب ألا تنسي من يكون، ما فعله ليلة البارحة بالهجوم الانتحاري الذي نفذته ابنةُ الحجّار؟ هل تريدين أنْ تكوني مثلها؟ مجرد بصقة تسمح لهم بفتح أبواب جهنم علينا؟".. فالمؤلفة تفسّر مثل هذه العبارات بأن هدفها "الكشف عن الجدل حول بعض الأساليب المستخدمة في المقاومة، والنتائج المدمرة"، وكذلك التساؤل حول الأسباب التي تدفع بفتيات علمانيات مثل "بنت الحجّار" و"إيمان"، إلى صف المقاومة الإسلامية والعمليات الانتحارية.

دلالات

المساهمون