}

أنطونيو غالا: الانطلاق من سؤال الحبّ

أحمد عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف 2 يونيو 2023
تغطيات أنطونيو غالا: الانطلاق من سؤال الحبّ
أنطونيو غالا في غرناطة (28/9/2006/Getty)
كان ذلك في عام 1999. أعلن قسم اللغة الإسبانية بكلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر، القاهرة، تنظيم أسبوع ثقافي ودعوة كٌتّاب من إسبانيا وأميركا اللاتينية للحديث عن تجاربهم في الكتابة الروائية والمسرحية والشعرية. ورغم طرح القسم الذي كنت أدرس فيه في عامي الأخير لاسم أنطونيو غالا، إلا أننا كنا نعرف أنه من الصعب الاستجابة للدعوة. كان غالا اسمًا كبيرًا في الثقافة الإسبانية، من الأسماء التي يصعب، بحسب ظننا، أن يستجيب لدعوة لمجرد لقاء طلبة يدرسون الأدب الإسباني، كما أنه في المعتاد لا يلبي الدعوات الكبيرة، وقليل الظهور، حتى أن لقاءاته الصحافية مع جرائد بلده قليلة. لكن غالا، ككاتب حقيقي وكبير، رحب بالدعوة.
في قاعة ممتلئة عن آخرها، بدأ صاحب "المخطوط القرمزي" بعبارة "اعذروني، فأنا لا أعرف التحدث أمام جمهور"، وبعد مرور خمس دقائق أدركنا الفخ. لقد كان غالا مفوهًا بشكل مذهل، لديه قدرة خارقة في بناء الجملة والانتقال من فكرة إلى فكرة والعودة إلى الفكرة الأصلية. كان هادئًا جدًا ومتأملًا جدًا وهو يحكي عن الأندلس، الأندلس الذي هو ابن له، ونتاجًا لثقافته. لم يختلف غالا المتحدث عن غالا الكاتب الذي قرأته لاحقًا، وترجمت له مسرحية "الأيام الخوالي" (أولى ترجماتي) تحت تأثير هذه المحاضرة التي امتدت لثلاث ساعات تقريبًا لم ينقطع فيها عن الكلام إلا لشرب الماء، أو للرد على الأسئلة في نهايتها. ورغم أنه لم يولد في جنوب إسبانيا، إذ ولد في إقليم لا مانتشا عام 1930، إلا أنه اختار منذ سن مبكرة أن يعيش في قرطبة، فلا يخرج منها أبدًا، وأن يتبنى ثقافة الأندلس، التي يعدها مكوّنًا رئيسيًا في الثقافة الإسبانية، في وقت كانت أصوات اليمين أعلى من الجميع، ومجرد ذكر "عرب ومسلمين" يثير الحساسية الهوياتية، خاصة لو لازم الأمر قضية الموريسكيين وطردهم.

فتح في الرواية التاريخية
لقد كانت "المخطوط القرمزي" فتحًا في الرواية التاريخية الإسبانية، ليس لأنها عملت على تفكيك التاريخ بكتابة جمالية انتصرت للخيال، مع عدم إهمال الشق التوثيقي، وإنما كذلك لأنها تناولت التاريخ الجارح الذي حاولت إسبانيا الحديثة، وخاصة مع بداية حكم فرانكو، ردمه وتجاهله. لحظة سقوط غرناطة، وقصة أبو عبد الله الصغير، يُعاد قراءتهما على ضوء جديد وكشوفات تاريخية حديثة، وانطلاقًا من الحب والتعاطف من ناحية، والنقد من ناحية أخرى. بالإضافة، بقلم كاتب يتمتع بهيبة كبيرة ومصداقية، وعدد هائل من القراء لا يذهبون إلى حفلات التوقيع، أو الندوات، لتلقي توقيع منه فحسب، وإنما لتقبيل يده كذلك، كراعٍ، أو كبابا. لهذه الأسباب، كانت "المخطوط القرمزي" سؤالًا في الهوية الإسبانية، عودة لتناول التاريخ المنسي، رأس السهم الذي فتح جدارًا ستمر عبره عشرات الروايات الأخرى التي ستتناول تاريخ إسبانيا المسلمة وتاريخ الموريسكيين، انتقالًا لسؤال حول هذه الهوية من الأكاديميا وأقسام الدراسات العربية إلى المكتبات وقراء الأدب. ليصبح سؤال الأندلس سؤالًا عامًا يتناقله ركاب المترو أو القطار والأصدقاء في سهرات نهاية الأسبوع، انطلاقًا من رواية عظيمة صدرت لأنطونيو غالا يتناول فيها هذا التاريخ.



كانت محاضرة صاحب "حدائق عدن الخضراء" جولة عميقة في هذا التاريخ، باعتباره النموذج الإنساني والتاريخي الأكبر الذي فقدناه، دون أن يغيب الحديث عن العروج على ابن رشد وموسى بن ميمون، صورتا قرطبة المشرقة، المفكر المسلم والمفكر اليهودي، ابنا المدينة التي اختارها ليعيش فيها ويرى في شوارعها وحاراتها تاريخًا قديمًا يستحق بعثه.
هذا الالتزام بالاعتراف بأهمية الرافد المسلم في تشكيل الهوية الإسبانية دفعه لتأسيس الجمعية الإسبانية العربية، التي حاول من خلالها أن يبني جسرًا علميًا وتاريخيًا مع العالم العربي، وكان استكمالًا لمشروعه هو ذاته في التعبير عن هذه الأفكار. أفكار لم تغب حتى في حواراته الصحافية التي كثيرًا ما قال فيها إنه أندلسي، بمعنى أنه ينتمي لهذه الحضارة القديمة.

الحب كثيمة رئيسية
إذا كان الشعر هو الأرض الخصبة للتعبير عن الحب وتأمله، فأنطونيو غالا لم يكتف به. انطلقت كل أعماله الروائية والمسرحية من سؤال الحب أو مدفوعًا به، حتى لو كان العمل تاريخيًا. في سيرته الذاتية التي عنونها "الآن سأتحدث عن نفسي"، يشير غالا إلى هذا المفهوم ليس باعتباره شعورًا إنسانيًا فحسب، وإنما كأساس لرؤية العالم. من هذا المنظار أحب الناس والتاريخ وتعاطف مع شخصياته، ليست التاريخية فقط، وإنما كل الشخصيات التي تناولها في أعماله. وكانت الكتابة الأدبية في مطلقها تلويحة حب لشخصيات حتى لو كانت معيبة إلا أنها تبقى إنسانية، فلا يمكن تجريدها من هذا الجانب لمجرد أنها أخطأت. يمكن تعميم هذا الحكم على أبو عبد الله الصغير في "المخطوط القرمزي"، كما يمكن تضمينه لـ كونسويلو، بطلة مسرحية "الأيام الخوالي"، وخوان، بطل "حدائق عدن الخضراء"، مسرحيته الأشهر، أو ديانا وكلاوديو، بطلا مسرحية "الجميلان النائمان". وفي المسرحيات تحديدًا، يتسع سؤال الحب ليشمل ركود الشغف والعاطفة، والاحتياج لعامل ثالث خارجي بقدرته تحريك المياه، سواء ليكون الطرف الثالث حبًا، أو ليعلّم الطرفين كيف يكون الحب عبر وضع حياتهما أمامهما.



"الوله التركي"... وله غالا
يتجلى سؤال الحب والمصير بوضوح أكبر في "الوله التركي"، وهي الرواية التي حققت مبيعات مهولة، وكتابات نقدية أكدت موهبة غالا في تبني الصوت النسائي السردي، الذي وإن كان متفقًا عليه من قبل، وواضحًا كالشمس في أعماله المسرحية، إلا أنه هنا أشد عمقًا وتأثيرًا. بالإضافة إلى الصوت النسائي، كان رهان كتابة رواية موضوعها هو الحب نفسه رهانًا صعبًا بعد كل روايات الحب التي كُتبِت، كان تحديًا يشبه تحدي ماركيز حين كتب "الحب في زمن الكوليرا". ديسي، المرأة الثلاثينية المتزوجة، تسافر مع زوجها وصديقات إلى تركيا لقضاء الإجازة، فتقع في غرام يمن، المرشد السياحي. حبكة كان يمكن أن تكون بسيطة ومستهلكة، غير أن غالا صنع منها ملحمة في الغرام والتضحية. ديسي، المرأة التي تزوجت لأنها سنة الحياة، باعت كل شيء من أجل حبيب تركي لم تكن تعرف عنه شيئًا، وقررت العيش في إسطنبول. ولأن الحياة ليست وردية، ولأن الحب يمر بمراحل، ولأن المعرفة أهم من الحب، بدأ الغرام ينهار يومًا وراء يوم، حتى جاءت اللحظة التي عرفت فيها ديسي، من صديق يعمل في الإنتربول، طبيعة نشاط يمن الربحية، ليكون ذلك آخر قشة في عمر علاقة عشق محمومة. يدخل غالا، بهذا العمل، موسوعة روايات الحب العظيمة، حيث الصراع هو البطل، والتضحية أحد أعمدته، وخيبة الأمل مفردة لم تغب.

الالتزام
بعين المحب أيضًا، ينتقد غالا ويتورط في الأوضاع السياسية، فيكون عمله الأدبي عملًا ملتزمًا، كما في مسرحية "مقبرة العصافير"، إذ يتناول انقلاب 23 فبراير/ شباط، عبر أزواج يمارس عليهم يوحنا المعمدان سلطته، حتى ينتهي بهم التفكير إلى اغتياله. في أعماله الأخرى، لا يغيب النقد السياسي، ولا نقد رجال الكنيسة، وهي ثيمات تتكرر في مسرحياته بقدر تكرارها في أعماله. بالإضافة إلى ذلك، لعبت مقالاته دورًا في الوعي بالقضايا السياسية، خاصة في فترة الانتقال الديمقراطي الإسباني في ثمانينيات القرن الماضي.




بذلك، يمكن أن نقول إن عوالم غالا محددة بمواضيع متكررة: الحب، التاريخ، السلطة، الكنيسة. لكن رهانه الحقيقي هو التجديد في طرح السؤال الملح، حتى مع تناول الثيمة نفسها، كما حدث في "الأيام الخوالي"، و" الجميلان النائمان"، إذ ينتظر الأبطال في العملين الطرف الثالث، كمخلص، أو كاشف.

***

بعد 30 مسرحية، و13 رواية، و6 دواوين، ومئات المقالات، ودّع أنطونيو غالا العالم يوم 29 مايو/ أيار، بعد سنوات من اعتزال الحياة، وبعد تجربة مريرة مع سرطان القولون، التي انتصر فيها على المرض، لكن الموت لا أحد ينتصر عليه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.