}

"الحشاشين" كطائفة ثورية

أحمد عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف 13 أبريل 2024
استعادات "الحشاشين" كطائفة ثورية
يلعب الممثل كريم عبد العزيز دور البطولة في المسلسل
اختارت الدراما الرمضانية أن تعود إلى التراث بحكايتين: واحدة تاريخية، عن حسن الصباح (1037 ــ 1124)، مؤسس الإسماعيلية النزارية، المشهورة باسم طائفة الحشاشين؛ وثانية سردية، بالعودة إلى "ألف ليلة وليلة". هذه العودة دالة، من جانب على ثراء التراث في شقيه التاريخي والسردي، وفي الوقت نفسه تفاعل مع هذا التراث على أرضية زمنية جديدة، ووسط سياق سوسيوثقافي وسياسي مختلف، ما يسمح برؤية أوسع. "ألف ليلة وليلة" لا تزال تجذب المشاهدين، كما تجذب القراء على مر الزمان، باختلاف أعمارهم وبلدانهم، وهي معجزة لم تتحقق مع كتاب أدبي آخر؛ والمسلسل التاريخي، سواء التي انطلق في مصر منذ السبعينيات، مثل "ليلة سقوط غرناطة"، و"علي الزيبق"، وغيرهما، أو ما قدمته الدراما السورية، له جمهوره الواسع، لما فيه من إضاءة على حقبة أو حدث فارق، وفي هذا السياق يأتي مسلسل عن طائفة لا تحظى بشهرة بين عموم الناس، ولكنها تحمل العديد من الرسائل، وتفتح المجال للحديث عن الجماعات المنشقة عن الجماعة، أو الدولة.

بين التاريخ والفانتازيا التاريخية
في مسلسل "الحشاشين"، يعود السيناريست عبد الرحيم كمال إلى منطقته الأثيرة: المدينة الغريبة، الأجواء القديمة، الأضواء القاتمة، الحكايات الخارقة. الفانتازيا، ليست كحِلية فنية، إنما عنصر تكتمل به الدراما، وتساعد في تطوير الحبكة. هذا العالم الدرامي يتحقق الآن في المسلسل التاريخي، ما يعد معضلة في تصنيف هذا التاريخ، ويعيد علينا مجددًا المسافة ما بين التاريخ والدراما.
اختار المسلسل عنوانًا شارحًا "أباطيل وأبطال، من وحي التاريخ" ملحوقًا باسم "Assassins"، أو القتلة، باعتماد أحد الاسمين مشتقًا من الآخر، أو يؤدي إليه. هذا العنوان الشارح هام، لأنه الاتفاق المبدئي بين صناع العمل والمشاهد: لن نعرف التاريخ، بل ما يستوحى منه من أباطيل وأبطال، وهم في هذه الحالة "الحشاشين".
ينطلق المسلسل من ميلاد حسن الصباح (يمثله كريم عبد العزيز)، مؤسس الطائفة الإسماعيلية النزارية، ويبدأ أول رسم للشخصية ومصيرها مع سقوط الطفل في بئر، حينئذ تظهر له روح غريبة (مثل جنيات ألف ليلة) لتخيرّه بين النور والظلام، فيختار الظلام. هذه اللبنة الأولى تحدد مصير البطل، وتحدد علاقته بالمشاهد، لكنها أيضًا تحدد تلقي العمل: حكاية خيالية تملأ حكاية واقعية، كما تفعل "ألف ليلة وليلة".
بداية من هنا، يجب أن يلتقي المشاهدُ الممثلَ المحبوب كريم عبد العزيز على أرضية جديدة، خاصةً هؤلاء الذين لم يكونوا يعرفون شيئًا عن الحشاشين وعن مؤسسها، وهو عدد كبير من مشاهدي الدراما. بذلك، أول نجاح حققه المسلسل هو البحث عن الصبّاح، سواء في أعمال أدبية، مثل "سمرقند" لأمين معلوف، و"جبل آلموت" لـ فلاديمير بارتول، وهما عملان تناولا تاريخ الصباح والطائفة بشكل معمّق، أو في أعمال تاريخية مثل "الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الإسلام" لبرنارد لويس.
ثمة "تاريخ" هو التاريخ الرسمي الذي كتبته سلطة ما من وجهة نظرها، وثمة "تأريخ" يسعى للحقيقة عبر وسائل مختلفة وينظر بريبة إلى الوثيقة الرسمية، يأتي عادة بعد زمن من الحدث؛ وثمة "فانتازيا تاريخية" تأخذ من التاريخ، وتملأ فراغاته من دون سند، وهذا النوع من الأدب، أو الدراما، يعتمد على خيال الكاتب، فتكون الرتوش المذكورة حول شخصية، أو حدث، قابلة للتضخيم، لتنبني صورة تخص المؤلف أكثر مما تخص الوثيقة التاريخية. والفانتازيا التاريخية هي ما اعتمدها السيناريست عبد الرحيم كمال، وما يجب أن نتلقى بها مسلسله، الذي أخرجه بيتر ميمي معتنيًا بالصورة والكادر والموسيقى. تنطلق الفانتازيا التاريخية عادةً من التاريخ باعتباره "مجرد حكاية"، يحق للآخرين إضافة حكاياتهم حولها، من دون أن يبلغوا حد التزييف، وإلا كانت هذه حكاية أخرى.

فلسفة العمل
ثمة ثلاثي يدور حوله العمل: حسن الصباح، سلطان الملك (يمثله فتحي عبد الوهاب)، وعمر الخيام (يمثله نيقولا معوض). ثلاثي اجتمع في الطفولة (لأسباب درامية) وتعاهد على الإخلاص والصداقة، ثم تفرقت بهم الطرق. اختار سلطان الملك السلطة، واختار الخيام الإخلاص لأحلامه كشاعر، ومبادئه كعالم ومفكر، فيما اختار الصباح أن يكون السلطة المضادة، أو الثورية.




وعلى هامش هذا الثلاثي، بخطاباته المتنوعة، ثمة شخصية أخرى لم تحظ بظهور كبير، لكن أثرها تسرّب على طول العمل: أبو حامد الغزالي (مثّله نضال الشافعي)، وهو صاحب الخطاب المناهض فكريًا لخطاب الصباح، ولديه قدرة على تجنيد وخلق أتباع كما يفعل مالك قلعة آلموت. يتبنى العمل الغزالي كصوت التسامح والعقل والحكمة، رغم أن الغزالي تاريخيًا كان تكفيريًا، وليس أدل من ذلك من كتابه "تهافت الفلاسفة" ضد المفكر الكبير ابن رشد. غير أن العمل الدرامي كان يبحث عن صوت متوازن يواجه صوت حسن الصباح، ويبدو أنه اضطر إلى منح الغزالي هذا الصوت.
لا يظهر حسن الصباح كمارق، إنما كرجل دين ملتزم بأحكام ما يراه الشرع، لا يقارع الخمر، ولا يضاجع النساء، لديه زوجة وأبناء يقيمون معه في القلعة، أما الجواري فيخصصهن لأتباعه، لوظيفة حوريات الجنة. تتكامل شخصيته كإمام بكونه رائيًا، يتمتع بالفروسية والقدرة على الإقناع، لا يلين في تطبيق الحق حتى لو كان الثمن قتل ابنه العاصي. رجل هادئ، ذكي، محارب وتكتيكي، لكن مع مرور الوقت، يعرضه المسلسل كمصاب بجنون العظمة، وبعد أن كان يتكلم بلسان الإمام نزار، بات هو الإمام، وصاحب مفتاح الجنة، ومن يتلقى رسائل إلهية. وهنا يتقاطع الدرامي مع التاريخي، فالصباح لم يكن محض داعية، إنما صاحب سلطة، سلطة تستهدف قتل أصحاب السلطة، ومن هذه الخلفية يقتل نظام الملك، والسلطان السلجوقي، لكن الحد يتجاوز ذلك إلى الشروع في قتل الغزالي، وقتل أفراد من الحشاشين، مثل زيد بن سيحون.
وسط أجواء من سلطات رسمية محيطة: الخلافة العباسية، الدولة الفاطمية، الدولة السلجوقية، الحروب الصليبية كمبعوثة لدول قوية، يؤسس حسن الصباح مملكته فوق جبل آلموت. الدول المحيطة به دول خلافة، وكل سلطان فيهم أمير للمؤمنين. لا جرم، إذًا، أن يولي الصباح نفسه أميرًا للمؤمنين، أو المتحدث باسم الإمام نزار، أو حتى يدعي الإمامية. نحن إزاء تكوين ثوري، حروب عصابات لو استخدمنا المصطلح الحديث، ومثل حروب العصابات ثمة سلطة فاسدة في جانب، وثوار في جانب آخر.
لم يكشف المسلسل عن أي خلاف عقائدي مع الخلافات الأخرى، واكتفى بالإشارة، واقتصر على التناول السياسي: أحقية الحُكم. ورغم تكفير كل طائفة للأخرى، فالغزالي يرى الحشاشين كفارًا، والحشاشون يرون كل من دونهم كفارًا، إلا أن المواجهة بين الخطابات وأسباب التكفير تجنبها العمل، وهي نقطة تكشف وعي المؤلف لخطأ الدراما أو الفن إذ يتورط في الدفاع عن طائفة، أو الانتصار لها، فيما ينبغي أن يتعمّق أكثر في مآلات الخلافات، حتى لا يبدو العمل الفني منشورًا دينيًا، أو سياسيًا. ربما لذلك نفسه، يمكن النظر إلى حسن الصباح كثوري يتمرد على سلطنة وخلافة، لا كافر ولا مارق يسعى لهدم الدين.
هذا المنظور يدفع المشاهد أكثر إلى التعرّف على الشخصية، لا تحديد موقف منفّر منها من البداية. وليس السبب في ذلك، كما تصور البعض، جاذبية النجم كريم عبد العزيز وشعبيته، رغم أنها ربما تكون عاملًا مساعدًا، وإنما فلسفة العمل نفسه في تقديم جوانب متعددة للشخصية، وعدم محاكمته، والتعامل مع الدراما كسبيل يفتح على القراءة والتأمل، وليس كرسالة تحمل الحقيقة. مع ذلك، تبقى فكرة "صاحب مفتاح الجنة"، وخلق جنة وهمية للمختارين، أو الفدائيين، كاستفاقة تنقذ المؤلف من الافتتان بالرجل، والتأكيد على ضلاله، أو على الأقل استحواذه على سلطة فوق بشرية.
نحن إزاء عمل وظّف كل العناصر الغرائبية الممكنة، من سحر لرؤية، وكشف لفروسية، لإضفاء هالة سحرية على رجل مؤثر استطاع أن يكوّن طائفة استحوذت على الجبل مدة قرنين، وعرف خلال سنوات عمره الإفلات من كل المصائد، وتفادي الهزيمة حين لم يستطع النصر، واستخدام الدهاء حتى لا يرضخ في أوقات الضعف. هذا البناء للشخصية ما يُحسب لمؤلف المسلسل، حتى لو وقع في هنات تاريخية، ليس من منطق الفانتازيا، وإنما انتصارًا لتجميع أهم أحداث العصر ومرورها بالصباح، مثل مرور الحملة الصليبية. وكان معادل النص تصويرًا عالي الجودة، استفاد من التقنيات العالمية، وأصاب المخرج في اختيار الموسيقى والملابس والإكسسوارات والكادرات.

عمل درامي موجّه؟
رغم أن البعض رأى في العمل استدعاء للتاريخي للإشارة إلى جماعة الإخوان، ورأوا التشابهات واضحة في الاغتيالات السياسية في بداية تكوين الجماعة، وخروجها على المجتمع، واعتقادهم بامتلاك الحقيقة المطلقة، ما يعني أن العمل توجيه مباشر من الدولة لتحقيق انتصار إضافي على جماعة الإخوان، إلا أني لا أتفق مع هذه الرؤية، رغم أن العمل من إنتاج شركة المتحدة، التابعة للدولة، ورغم أن السياق السياسي يسمح بهذا التأويل.
لا تقدم الدراما صورة لدولة عادلة يحاربها الحشاشون القتلة، وإنما دولة ظالمة يبرر حسن الصباح بناء على ظلمها تكوينه لطائفة منشقة تسعى للعدل. ورغم أن العمل لم يركز على أفكار الصباح، أو يروج لها، إلا أنه لم يقلل من قوته وتأثيره. لقد منحه هالة كبيرة لا تتوافر إلا لكبار الأولياء، وهي هالة محقة لو وضعنا في الاعتبار قوة الطائفة واستمراريتها وانتصاراتها في أجواء صعبة وغير ملائمة للبقاء.

 رأى البعض في العمل استدعاء للتاريخي للإشارة إلى جماعة الإخوان 

لقد وازن المؤلف في خطابه: جماعة ثورية على أساس ديني تواجه دولة دينية فاسدة، إذ لم تكن الدولة الفاطمية، أو العباسية، أو السلجوقية، إلا دول خلافة، وللسلطان صلاحيات أمير المؤمنين. بذلك، تتشابه دولة الحشاشين مع أي دولة ناشئة تمردت على الدولة القائمة، وفرضت سلطتها، غير أن الطائفة الباطنية لم تحظ بالتوسع الذي حظيت به دول مثل المرابطين، أو الموحدين. لقد قام التاريخ الإسلامي على هذا التعاقب للدول، فكلما وهنت دولة، ظهرت من تقضي عليها وتخلفها. وفي حالة الحشاشين، كان لكثرة أعدائهم وتكتيكهم في التخفي بالجبل، مانع عن تحقيق دولتهم.
في النهاية، لا يمكن قراءة العمل الدرامي، أو العمل الأدبي، بمنظور ضيّق، فتناول جماعة متمردة في زمن لا يعني الانتقام من جماعة أخرى، وإنما يعني العودة إلى التاريخ والنظر فيه وإدراكه، خاصة أن التاريخ الإسلامي في حاجة لإحيائه على أرضية جديدة، وبمفاهيم مختلفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.