}

وداعًا جوان مارجريت: شاعر الذاكرة

أحمد عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف 18 فبراير 2021
تغطيات وداعًا جوان مارجريت: شاعر الذاكرة
جوان مارجريت (1938ـ2021)

 

1

في وداع ابنته جوانا، كتب الشاعر الكتالوني جوان مارجريت قصيدته الشهيرة "لحظة بائسة":
الموت ليس إلا ذلك: غرفة النوم،
المساء المشرق في النافذة،
وهذا الراديو كاسيت على الكومودينو،
مطفأ مثل قلبك،
بكل أغانيه المترددة للأبد.
تنهيدتك الأخيرة لا تزال بداخلي،
لا تزال معلقةً: لا أسمح لها بالانتهاء.
هل تعرفين، يا جوانا، ما الحفل الموسيقي القادم؟
هل تسمعين كيف في فناء المدرسة
يلعب الأطفال؟
هل تعرفين، عند نهاية المساء،
كيف ستكون هذه الليلة،
ليلة الربيع؟ سيأتي أناس.
سيضيء البيت كل أنواره.


2

أمس الأول، الثلاثاء، وعن عمر يناهر الـ 82 عامًا، ودّع جوان مارجريت العالم، وكل من قرأه وعرفه، ردد قصيدته عن الموت. الموت الذي شغل مشواره الشعري الذي تُوّج في عام 2019 بأكبر جائزة إسبانية على الإطلاق، جائزة ثيربانتس. ما بين ميلاده في 1938 بقرية ساناوجا (ليدا، كتالونيا) وموته ببيته بسان جوست ديسبم (برشلونة) كما اختار وأوصى، ثمة قوسان مفتوحان بينهما حياة ملأى بالشعر، بالإخلاص التام للشعر، حتى لو انشغل بأشياء أخرى مثل عمله كمهندس معماري.
في الشتاء الأخير أخبره الأطباء بدنو أجله، بانتشار السرطان في جسده، ففكّر بتمهل في الموت، في موته ذاته، ورتب أوراقه وذاكرته. لم يحتج من العالم أكثر من الموسيقى، يقول إنه يفضّلها على الحياة. وخلال هذه الفترة انكب على الكتابة، كتلويحة أخيرة، وأنجز ديوانًا كاملًا عنونه "حيوان الغابة"، كان جاهزًا للمطبعة لكنه لن يراه مطبوعًا.

كان جوان رجلًا نزيهًا، مقتنعًا بأن كل شيء يبدأ وينتهي في بيت شعر صادق، حقيقي ويمكن مشاركته. يمكن أن تُلخص حياته هكذا: بداية ليلة ونهايتها.



بدأت حياة جوان مارجريت قاسية، وتعرضت لضربات هائلة، هو نفسه كان يقول إنها لم تكن سهلة ولا مقدسة، مع ذلك لم يتخذ من الحزن قانونًا. ولد الشاعر الكتالوني في عز الحرب الأهلية الإسبانية، على صوت قذائف تضرب بلده، وقضى طفولته في خرائب الحرب قبل أن ينتبه إلى يد الفرانكوية الحديدية التي فرضت عليه التحدث بالقشتالية (الإسبانية)، حين صفعه أحد الحراس على وجهه لما سمعه يتكلم الكتالونية وهو خارج من المدرسة. كان في الخامسة أو السادسة حينها، لكن الصفعة ظلت معه للأبد. صفعة ألا تتحدث لغتك في العلن، وكان هذا أول إدراك لمعنى الفرانكوية. حين بدأ مبكرًا في كتابة الشعر، كتبه بالإسبانية، لكنه كان يلوي عنق الكلمات ليستطيع قولها، فبدأ في الكتابة بالكتالونية لسنوات طويلة، وكان يترجمها بنفسه إلى الإسبانية. وفي مسيرته الطويلة، كتب 30 ديوانًا حقق بعضها نجاحًا لافتًا مثل "جوانا" (2002)، "بيت الرحمة" (2007)، "الحب هو أين" (2015) بالإضافة لمذكراته التي تناول فيها طفولته وعنونها "لتمتلك بيتًا يجب أن تنتصر في الحرب". ولعل مأساة حياته الكبرى تكررت مرتين بموت ابنتيه جوانا وأنّا، موت ترجمه في قصائد شديدة الرقة والألم.
وإن كانت الحياة أهدته الألم، فالشعر أهداه السعادة. حظي بتقدير منذ بداياته، وفاز بجوائز هامة مثل الجائزة الوطنية للشعر (2008) وجائزة الملكة صوفيا للشعر الايبيروأميركي (2019) وأخيرًا جائزة ثيربانتس.
تميزت قصيدة مارجريت بالوضوح في التعبير، بقدرة هائلة على الوصول لعمق العاطفة الصعب وفي نفس الوقت بإطلاق قهقهة رنانة نحو السماء، كأن القصيدة حفلة، بحسب وصف جريدة الكونفيدينثيال. كان يعيش معزولًا في قريته بضواحي برشلونة، وأطلقوا اسمه على مكتبة القرية. حين أثيرت مسألة انفصال كتالونيا كان رأيه أن هذا ليس وقتًا لأي شيء، وعبّر عن خوفه: "بداخلي خوف يمكن أن أفهمه بالثقافة، لكن لا يمكن تجنبه. إسبانيا تخيفني، وأقصد بإسبانيا بكتالونيا داخلها. أنا أخاف من إسبانيا منذ زمن الملوك الكاثوليك". هذا الرأي لا يبتعد عن قصيدته التي تبحث وتحتفظ بتواطؤ ما. وفي قصيدته أيضًا يعانق البهجة إن جاءت، ويقبل بالألم والصمت كجزء من هذا العالم. الموسيقى والكتب سلواه المفضلة و"الحرية مكتبة"، كما يكتب. والكتابة ذاكرة لمواجهة محو الذاكرة، أداة الزمن وسلطته.
كان جوان رجلًا نزيهًا، مقتنعًا بأن كل شيء يبدأ وينتهي في بيت شعر صادق، حقيقي ويمكن مشاركته. يمكن أن تُلخص حياته هكذا: بداية ليلة ونهايتها.

 الملك فيليب السادس يسلم جائزة ثيربانتس لعام 2019 للشاعر جوان مارجريت  بحضور الملكة ليتيتسيا
وزوجة المؤلف ماريونا ريبالتا  














3

كتب في قصيدة الجولة الأخيرة:
لم أعد آكل. وشعري صار يتساقط.
النهار بأكمله كنت أقضيه بعينين مغمضتين.
لكني خرجت إلى الشرفة عند الفجر
وشخص ما من الرصيف، وتحت شجرة،
حدثني بصوت يشبه صوت أمي،
التي كانت تنام في سريرها بجواري.
وفجأة لم أشعر بالتعب،
وبدون عكازين نزلت إلى الشارع.
لم أستطع أن أسير من قبل هكذا.
شعرت بأني استعدتُ السعادة:
سقط عني المرض مثل جلد متعرق،
مهجور هكذا في الشارع.
لم أشعر أبدًا أني خفيفة هكذا.
نظرت ورائي، إلى شرفتي،
إلى السور الحديدي كنوتة موسيقية.
وقلت وداعًا لأبي وأمي.

اختارتني الحياة من أجل الحب.
والموت كذلك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.