}

لا أطيق شيئاً، لا أتحكَّمُ بأي شيء

علي جازو علي جازو 29 مارس 2018
ترجمات لا أطيق شيئاً، لا أتحكَّمُ بأي شيء
لوحة للفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد

نـيْشاني 

شيـخُ المتصوّفـة الأكـراد:

الملا وأقرانه

يُقارَن الملَّا أحمد الجزيري (أو الجزري) بكبار المتصوفة. إنه في مرتبة ابن الفارض سلطان العاشقين الروحيين (1181-1234) في العربية، وحافظ الشيرازي الشهير بلقبه لسان الغيب (1315-1390) بالنسبة للفارسية، ويونس إمره (1240-1320) أسطورة الصوفية التركية.

 يُعد ديوان الملا أحمد (العِقْد الجوهري) ربما الوحيد في لغته الموسيقية الكردية القديمة، الثرية المطربة، وفرادة تراكيبه المتنوعة؛ إذْ صيغَ العِقد بمذاق أكثر من لغة وذكائها الإيقاعي المنحوت، واحتوت أبياته مقاطع من اللغات الثلاث، العربية والفارسية والتركية، إضافة إلى المتن الكردي.

لم يُعرَف شاعرٌ بين الأكراد، إذا استثنينا أمير الشعراء أحمد خاني (1650-1707) صاحب ملحمة مم وزين (Mem u Zin)، وجكر خوين (شيخموس حسن Cegerxwin "1903-1984") الأقرب عهداً، مثلما عُرف الملا الجزيري وراجت قصائده أكثر من غيره وسط حلقات الذكر وتوسلات الدراويش في التكايا وحجرات طلبة الفقه الإسلامي الكردي.

كما انتقل شعره من الحجرات وخلوات الليل الصوفي في الريف الكردي إلى الغناء الشعبي، إذ غنّى ولحن رشيد صوفي (ابن مدينة كوباني، الملحن وعازف العود المعروف)، قصيدة (الشيخ الصنعاني) التي يرد فيها ترك الشيخُ اليماني الإسلامَ واللحاق ببلد هو أرمينيا بغية وصل محبوبه هناك:

"الشيخ الصنعاني، ما عن خطأ، شربَ الخمر. الشيخ الصنعاني، ما عن خطأ، رحل إلى أرمينيا".

كذلك غنى المطرب الشعبي (زبير صالح) إحدى قصائد الملا (صباح الخير خانه من = صباح الخير يا ملكتي) ويعتبر أداؤه ولحنه لها من أكثر ما راج واشتهر عن شعر الملا الجزيري بين الكرد السوريين، لكن الأداء الغنائي الأجمل لقصائد الجزيري قُدّم في عامودا، شمال شرق سورية، على تسجيل، رديء تقنياً، في سهرة منزلية قديمة، دون أي عزف مصاحب، بصوت الملا (عفدي) الضرير، وفي هذا التسجيل تبرز خامة البعد الموسيقى النقية لقصائد الملا أحمد ومرونة العبارة التي تسهّل على المنشد النداء المتضرع والتغزل الراقص.

سيرتا الشاعر والشارح

 

ورد في كتاب (تاريخ الأدب الكردي) للسجادي، أن الملا نيشاني ولد في جزيرة بوتان (جزيرة ابن عمر) وأنه توفي فيها قرابة 1160 ميلادية، دون أن يحدد بدقة سنة ميلاده. لكن شارح الديوان بالعربية، المرحوم الملا الكردي السوري، أحمد الزفنكي، أول مُفتٍ بالقامشلي، يرى بعد بحث معمق أن الملا ولد عام 1407، وأنه بعد طواف ودراسة وتدريس وارتحال، عاد إلى جزيرة بوتان، في صحبة بعض المجانين وأنه هو نفسه كان في هيئة المجنون، وتوفي حيث ولد عام 1481.

صدرت الطبعة العربية الأولى من الديوان عن مطبعة الرافدين بالقامشلي عام 1953 وانتشرت نسخه في أنحاء كردستان والمشرق العربي ومصر حتى بلغت أوروبا. علماً أنه ترجم مسبقاً إلى الروسية والفرنسية والألمانية التي صدر في لغتها بطبعة أنيقة عام 1904، من ترجمة وتقديم المستشرق الألماني فولد هارتمان الذي أرفق الكتاب برسم متخيل للملا نشاني. أما شارح القصائد بالعربية فهو فضيلة الملا أحمد الزفنكي الذي عكف على عمل آخر هو قصة العشق الأسطورية ( مَمُو زِيْنْ Mem u zin ( التي ضمنها وكتبها شعراً أحمد خاني في 2656 بيتاً، وترجمها إلى العربية وشرحها الشاعر( جان دوست) وصدرت طبعتها الأولى عام 1995. لكن إصابة الملا الزفنكي بالعمى في أواخر عمره منعته من إتمام العمل الكبير للشاعر أحمد خاني. توفي الملا الزفنكي رحمه الله عام 1971 في حلب، ودفن بناء على وصيته في قرية تل معروف التي منها خرج الشيخ الراحل (معشوق الخزنوي) الذي اغتالته مخابرات النظام السوري.

تمت صياغة (العِقْد الجوهري) بخليط مدهش من الكردية والفارسية والعربية والتركية، وقد قدم المفتي الزفنكي شرحاً مسهباً مفصلاً وبالغ الدقة والوضوح عبر نقله كامل الديوان إلى العربية. وما قمت به، هنا، ليس سوى نقل حرفي جديد يعتمد شرح الملا الزفنكي لديوان العقد الجوهري، وقد اعتمدْتُ على طبعة عام 1987.

حكاية اللقب

الجدير بالذكر أن لقب نيشاني، أو نشاني، قُرن بالشيخ الجزيري نسبة إلى ( نيشان nishan) أي الهدف والعلامة والإشارة باللغة الكردية؛ بدعوى أن الملا كان هدفاً لسهام المحبة الإلهية، أو أن اللقب جاءه من كثرة ما أشار هو إلى الخال وشامة الحبيبة في قصائده الغرامية.

 

مختارات

فيما يلي ترجمة، بل إعادة صياغة موجزة، لشرح إحدى قصائد الديوان، بعنوان مجزوء من أحد المقاطع.

 

لا أطيق شيئاً، لا أتحكَّمُ بأي شيء   

 

الصّبْيَةُ، سَحَراً، الصبية مقدمو الخمور،

يقبلون على الرقص، لإمتاع الساهرين،

لتبتهج نظراتهم، كلَّ سحَرٍ، يرقصون يرقصون،

والشاربون؛ شاربو الخمور، مستمتعين بالمشاهدة،

متلذذين، يرفعون الأقداح إلى الشفاه.

_____________________________

بعض الصبية ورودٌ برائحة العنبر،

بعضهم سُمْرٌ عِذاب.

آخرون مثل حباتٍ من الدرّ،

مثل قطرات من الماء؛

مضيئة بهية كأنها النجوم!

_________________________

 

 

 

 خدودهم ذهبيةٌ مغرية؛

بالريش الملوَّن زينوا رؤوسهم، بالريش الملون،

آخرون ذوو مرايا بيضاء صافية؛

في حلقة الرقص، حين أراهم في حلقة الرقص،

لا أتحمل أي شيء، لا أعترف بأي شيء!

________________________

 

فاقد الصبر أنا، أنا الحائر، أخذوا روحي!

كبدي، فتتوا كبدي، بين أقدامهم.

أي عناء هذا الذي أنا فيه!

سُلِبَتْ روحي، سُلِبَ قلبي.

أي عناء هذا الذي أنا فيه، أي عناء!؟

_________________________

هو روحي، هو قلبي، هو روحي، هو قلبي.

هو سواد عيني، هو سوداها، هو بياض عيني،

هو بياضها، هو المستبدُّ، هو مليكي المستبدّ.

سوى شحاذ، ما أنا سوى شحاذ فقير،

واقفاً أمام بابه.

_______________________

 

 

ساعدني الحبيبُ، رقَّ لحالي، ومدَّ يده نحوي

إذْ رآني سائلاً مدَّ يده؛ إذ رآني تائهاً، مدَّ يده،

ومضى بي إلى الرقص؛ بالرقص امتلكني بالرقص.

لم يتبدل أي شيء، لم يتبدل أي شيء؛

لم يستغربني أحدٌ، ولا أحد من الراقصين أنكر عليَّ الرقص.

 

______________________________

الحبيب النقي، أخبرني حبيبي النقي:

كلانا واحد، كلانا واحد؛

أنت مني، أنا منك، أنت عني، أنا عنك.

هما كذلك حقاً؛ هما كذلك أبداً،

بلاريب بلا ريب، هما كذلك أبداً.

__________________________

بيدٍ مغرمة قدم الكأس؛ بيدٍ مغرمة،

بصفاء لون حجر كريم، قدم الكأس.

تغلغلتِ فيّ الرعشةُ، استفحلت الفتنة،

حتى قلبي وصلتْ، حتى روحي سكنتْ؛

وحواسي كلها، حواسي كلها، اختلطت عليّ!

_________________________

 

 

 

من يد حبيبي، شربتُ الخمر من يد حبيبي.

غبتُ عن ذاتي، ثملت نفسي بحبه، وذاتي نسيتها.

غبتُ، ذبتُ، ذهبتْ نفسي، وبقيتُ ثملاً...!

لكن لا شيء تغير أبداً، لا شيء قط. فقط قطرة واحدة،

وصلتِ البحرَ؛ البحرَ الذي، آهٍ، ليس سوى البحر!!

____________________________

لا تأبه بأحدٍ، لا تكترث لعامة الناس.

لا تترك الخمر، لا تدع الخمر أبداً.

الناس، عامة الناس، أولئك البشر؛

معظمهم عميان، بلا درب!

معظمهم عميٌ، في تيهٍ أغلبهم في تيهٍ!

______________________________

 

الحروف كلها من حرف واحد انفصلت.

أتريد ردّها إلى الحرف الأول، أتريد ردَّها!؟

ستعود الحروف خطاً واحداً وحيداً، ستعود

عندما لا يبقى حتى الخط الواحد نفسه،

ستعود نقطة واحدة، نقطة أبدية!

______________________

 

 

 

 التوحّدُ الحرُّ، التوحّدُ المطلَقُ.

يا (مَلاْ)، يا شيخ (نشاني):

ثمتَ نورٌ جليّ، للقلب واضحٌ،

لكنْ دائماً يُرَدَّدُ السؤالُ نفسه، مرة تلو أخرى:

أهلُ الهوى في الشكّ مقيمون، في الشبهة دائماً!

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
15 مارس 2024
شعر
28 ديسمبر 2021
آراء
17 مارس 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.