}

شذرات حول الألوان

علي جازو علي جازو 15 مارس 2024
يوميات شذرات حول الألوان
(ياسر الصافي)
... ذلك أنّ اللونَ ينتظرُ العينَ.

الأحمر 
على نحو أليف، بديهي ربما، نحسب الأحمر لونًا فاعلًا مبادِرَ نشاطٍ، حتى إذا كان راقدًا في جوار الكسل، ليتعلم منه الصبر والإهمال، فن الانتظار.
يستولي الأحمر على العين فور وقوع النظر عليه، يحتل المرئي ولا يكتم سرًا، غير أن إشاراته أحيانًا غامضة رغم جاذبيتها المقدامة. فهل الأحمر لون التناقض كما هي حال الوردة - الدم صديقةً "لا تُبقي على أحد".
إنه لون متحرك سائل، من غير ادعاء فوران الرغبات الطارئة ولا استعراض النافل، مبادرٌ حتى إذا لاح لنا مطفأ من نقطة دم صغيرة جامدة.
يحركنا الأحمر فيما هو يتحرك داخل نفسه وحدها. سكونه الثري ليس جامدًا وقوته، إذا كان للألوان قوة، تأتي عفو الخاطر من قلبه وتقلبه.
الأحمر قريبٌ حتى إذا ما لمحناه من بعيد، دافئ حتى إذا ولد من تأمل بارد، مترنحًا في شذى المسافة يتقدم! هل لذلك ربما هو لون داخلي، لون باطن الأشياء وقد تحررت من شيئيتها وثقلها، لون المسافة وقد دنا حتى صار أقرب من كل ما هو قريب!

الأخضر
صوت اللون الأخضر خفيضٌ، أقرب إلى الهمس منه إلى الجهر. حتى الغابات تكاد تكون إشارات ضائعة حول الصمت المتناوب، الصمت الذي يخلفه همس الأخضر وراءه.
الأخضر بعيدٌ. إنه لون كل ما هو بعيد ربما.  لكن للأخضر ظلالًا، أو هو نفسه ظل لونٍ آخر لا نعرفه لأننا لم نعد قادرين على رؤيته. قد يكون الأخضر لون الفقد وقد أحيا غيابه، على هذا يكون اللون الأخضر قرين لون قديم، لون أقدم من كل لون.
للأخضر حقل من السكينة، حقل هدوء عميق. ثمة مياه تجاور الأخضر وتتخلله.
يصغي الأخضر للجوار يصاحب النواحي، لديه دائمًا وقت للإصغاء الرقيق، الاصغاء المائي المجاور المتودد، وربما إصغاء مدى الحياة دونما اضطراب دونما قلق.
الأخضر ينظف العين، يعيد المرءَ خفيفًا إلى ذاته، ليرى ما ظن أنه قد رآه وعرفه من قبل.

البرتقالي
الأغلب، ربما، أن البرتقالي لونُ اللعب وقد استمدَّ قوة خفية من لهب جريء، من شعلة متلهفة كما لو كان وثبةً لونية، قفزًا مرحًا على سطوح الألوان.
ليس هو الأحمر لون الفطرة والباطن المباح، ولا الأصفر لون الانتظار العذب والتسويف المخاتل، ولا الأخضر عنوان التعاطف.
البرتقالي لون حالّ لون لا شيء معه يستدعي التأجيل.
لا يعرف البرتقالي الندم طالما كان مغسولًا بماء الولادة يبقى مشغولًا باللحظة المقبلة، شغوفًا بما تحقق ولما يتحقق. لكن حسابات البرتقالي تصطدم بمراهقته اللولبية التي تتآمر على تقدّم حسّه اللاهي، وحين يخيم صمتٌ مؤلف من الغروب والحنين يبلغ مرتبة النضج دون أن يتجاوز ارتباكَهُ المنعِشَ حياتَهُ.

البني
يقيم البني إلى جانب البرتقالي شقيقًا خارج دائرة النسب الواحد والأصل المتوارث. دون أن يفقد من خصائصه شيئًا، يؤيد البرتقاليُّ البنيَّ يزيده متانة ورصًّا.
للبني خصال عائلية، ذلك أن الدفء الذي يبثه أشبه بحنان خشب طاولة المطبخ، أشبه بملمس إفريز النافذة.
البني دون البرتقالي لون عائم خفيف، يكاد يكون بلا إيقاع، لكنه إذ يدكن ويقسو كنواة يغدو أقرب شبهًا بالأسود الصافي.




عندما يطفو البني نقيًا فوق نفسه ليسبقها ويحصنها قد نعثر في حوافه على ورقة من أوراق الخريف.
هناك أحمر مطفأ في البني، هناك أصفر صغير غائر غور حصاة في الرمل، طبقة على طبقة، البني لون من ألوان بناء النظرة مثلما يبني حجران مرمى أهداف الشوارع، أهداف الأزقة.

الأسود
للأسود أحوالٌ تشبه خصالَ تدرّج الصباح إزاء النهار بطوله. أول الانتماء إلى الضوء، لمسته الأولى كلامه الأول.
الأسود حصين ومغر، أعمق من كونه مجرد قوت روحاني أو تذكار معين. مكتفٍ وفخور. لكن فخره يتجه صوب داخلٍ مغتنٍ، صوب ما استجمعه واختزنه ببطء طوال اليوم طوال العمر.

الأسود نافذة. نافذة لا تحجب شيئًا. على العكس من الإخفاء يستجمع الأسود المرئي حوله ليطلقه صوب مدى مفتوح، صوب أعالٍ لم تمس بعد.
يلتحم الأسود وروحه. روحه جسده، جسده روحه. من ينتمي إلى الأسود؟ إلى الحميم وقد رقّ، إلى الغائر وقد طفا.
ملمس الأسود إلى اللون كملمس الجفن إلى العين.
أهذه يدٌ اسودَّت! إذًا هي يد البداية يد النهاية.
ما من ستارة سوداء سوى ستارة النفس، هذه الأحجية وقد تحولت إلى صلاة صامتة، إلى رجاء إلى وداع.

الرمادي
الرمادي يتموج. هو التموج الطفيف نفسه. يبدأ من الخفّة، وقد ترك الأثقال خلفه. أهو صديق الأوقات الصعبة، أم قرين اللاأمل!
يتلاشى الرمادي، لكن على الرغم من ذلك، يسحب لنفسه حيزًا، هناك يمكث كأنما ينأى بنفسه عن كل تأثير، يحتمي ناحيًا ظلًا صامتًا ومراوحة لالتقاط النفس.
ما يتنفس ويتكسر من نسيج الرمادي هو ما يؤلف أثره الصغير، الباقي مما انقطع ولم يشفع له مأوى، مما تلاشى واندثر يستجمع الرمادي وجهة أخرى أبعدَ وأبردَ، وجهًا لاستقبال العالم كما لو أن الحياة كلها ضيفٌ على الرماد.
بطيءٌ ظهور الرمادي أعلى شرفات بحيرة العيد، ربما يكون بطيئًا وقصيرًا في آن. خلف هذا الظهور تشرق حكمة، تشرَّبها الرمادي أثناء مرور اللحم بالنار، أثناء شكوى الروح في وجه الروح، وما يعقب العبور ذاك حكمة مطوية داخل النفس كما هي حال الجرح الغائر تحت الجلد.
الرمادي هو ذاك اللون الذي يسير مرتحلًا تحت الجلد إلى أن يصل إلى الكهف مضيئًا الظلام كما لو كان الظلام كنزًا.
لكن ما من أصل ما من عائلة.
هذا الإنشاد الرمادي الحنون، هذه المرافقة الهامسة هي الأقرب من كلمة على طرف اللسان، كلمة يحس بها أي كان، لكن لا تقال أبدًا.

الأزرق
ليس للأزرق عنوان رغم أنه هو البيت هو الليل هو الحلم.
للوصول إلى ما هو أزرق تلزم المرء رحابة من رحابة الماء من سعة البحر.
إن الطمأنينة بعدما أتعبها الخوف والقلق تجد في الأزرق الملاذ.
ينصت الأزرق. يطيل النظر ويثمن الصمت الذي يتغذى على مزيج من النور والظلام، من تلاطم صامت. تعينه الرحابة الملقاة داخله وحوله ليبقى وحيدًا كما لو كان قارة للصمت المصغي.
من داخل صمته يولد الأزرق ويتكاثر من خلاله. كل شيء يسقط في مدى الأزرق، الهواء والحجر، الصباح والمساء. قد يكون الأزرق غطاء الأغنية الكاملة، حتى لو جاءت الأغنية من أرض سوداء من شوق أخضر.
يتجدد الأزرق كلما لمس كائن نفسه. كلما أصغى واستعاد ما ظنه منسيًا وبعيدًا.
الأزرق يستعيد البعيد ويغمره. وعبر تأليف الألفة يخيط رداءَ الأيام ساعة إثر أخرى.

البنفسجي
هل البنفسجي ظل أم أصل، خيال أم حقيقة.
أهو النبع الذي يكشف عن لونه، لون جريانه أمام العين، أم هو ما أثمر عن الغياب، فقد الصفة الأولى من اللون.
أليس البنفسجي لونًا صغيرًا من حيث عمره وقوامه ونسبه إلى عائلة الألوان، أليس لونًا عابرًا، أليس ضيفًا مفاجئًا وحلولًا جديدًا للتراب والماء.
يدنو البنفسجي من الهواء، يكاد أن يلمسه. البنفسجي هو أثير هذه اللمسة. ترتعش اللمسة الوشيكة.
إنه هذا الدنو المبهج، في اللحظة التي لا نعرف فيها الحاضر من الماضي، ولا نميز الوجه عن المرآة.

الأصفر 
ما من مكان خاص بالأصفر، شيءٍ مكانٍ يمكن القول انه للأصفر وحده. الأصفر لا يملك ولا يضع حدودًا. غير أنه يضفي ضوءًا على الأمكنة كلها. وهذا يقتضي منه أن يكون لونًا بلا أنا خاصة، لونًا فرادته في أنه لا يريد أن يملك أي شيء.
حتى الحب الضوئي الذي يهبه للموجودات يهبه بلا انتظار رد أو مقابل. هكذا يكون للأصفر المقام الذي للشمس. هل والحال هذه، يكون الأصفر لونًا من ألوان الملائكة فرحين بالعدم المضيء اللاشيء. لكن الأصفر لون الحيرة أيضًا. وعلى الرغم من كونه لونًا لا يجد فرقًا بين الفكر والعاطفة، تراه أحيانًا راكعًا دامعًا كما لو أنه لون الندم، الندم كله.

الأبيض
ما الأبيض إزاء العين المراقبة. العين التي هي الميزان العدل.
أليس هو ذاك المزيج المذهل من القلب والألم. لا يغطي الأبيض سوى القلب سوى الألم. إنه الغطاء الوحيد الممكن. الغطاء الذي يكاد يشبه المحو.
ينظف الأبيض أعماقه الخائفة البريئة، ينظفها من البرد من الضيق من النور المخيف.
بعد ذلك ماذا يبقى من وعاء الروح؟
تبقى النظرة الملقاة وحيدة مالكة رحلات العزلة حتى أقاصي المدى، المدى الموشك على الظهور في مسرح العين.
الأبيض يصبر، يصبر ويصمت وينتظر، موحيًا بالحياد والنقاء، الحياد الوهمي، النقاء المحال.  لكن الأبيض يبث أحيانًا شكواه، يبثها بصمت كما لو كانت الشكوى هي الخجل نفسه.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
15 مارس 2024
شعر
28 ديسمبر 2021
آراء
17 مارس 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.