}

الحقيقة والرأي

علي جازو علي جازو 17 مارس 2018
آراء الحقيقة والرأي
لوحة للفنان العراقي حنوش

يعقبُ الرأيُ الحقيقة -الحدثَ، يليها كي يفسّرها أو ينكرها، أو يتنبّأ بها أو يجد لها معنى آخر غير المعاني السابقة كلّها. لكننا ببساطة نفهم من الحقيقة معنى واحداً، وهو في الوقت نفسه البعدُ الجوهريُّ من الحقيقة، لا غير. والحال هذه، لماذا نحتاج إلى رأيٍ حول الحقيقة إذاً؟

ربما تكون الحقيقة نائيةً بعيدةً بُعْدَ أمنيةٍ مستحيلةٍ، ربما تكون قريبة، على ما يُقال ويوصف ويجري مثلاً، فتصير الحقيقة هي الـ "أقرب إليك من حبل الوريد".

تجعل الأمنية من الحقيقة طيفاً يدور مدار المستقبل الآتي والأملَ بحلوله، فيما القرب اللصيق منها يجعلها مخيفة وخانقة. وبين حدّي الخوف والرغبة هذين الطاحنين، تتناهب الحقيقةَ شتى الآراء.

هكذا فإن الحقيقة ليست سوى المعنى المطارَدَ، والصراع على المعنى. إذا ما قبلنا النظرة السالفة، نجد أنفسنا إزاء ضربٍ جديدٍ من الصراع، يمكن أن نسميه الصراع غير المادي أسوةً بالتراث غير المادي للبشرية؛ أي ذاك الصراع الغامض والعميق الذي يولي جهده كله نحو تبيان الحقيقة، وربما يكون هذا النوع من الصراع أهم بكثير من تصوراتنا السائدة والسريعة حوله، إذ إننا معظم الأحيان نفكر بالفائزين والخاسرين في أي صراعٍ، من دون أن ننظر في اللامرئيين الضائعين والمنسيين بين هؤلاء وأولئك، والذين هم لحمُ الحقيقة وعصبُها.

عندما يكون الصراع لا مادياً، فإنه ينصرف نحو أرضٍ أخرى للفكر والمنافسة النبيلة، ذلك أن الدقة المطلوبة حينها، مقارنة بالشغف بها، ومصانة بهذا الشغف، تجد لها ملاذاً في البحث عن رأي صائب وفريد. إنها وجهة نظر ترفض تحويل القيمة إلى عَرَضٍ، وتحويل المعنى إلى موضةٍ، وجعل الفن والعلم نوعين من العمل كسائر الأعمال الأخرى.

نعرف أن الوقائع والأحداث كثيرة، لكن ماذا إذا كانت تدور حول حقيقة واحدة؟! ونحن إذ نخوض في أرض الحقيقة، تكون الآراء بمثابة علامات استدلال أساسية، إذ يبدو أن هذه الأرض تتحول شيئاً فشيئاً إلى حقل ألغام غزيرة، تلعب الآراء دور الدليل المنقذ من مخاطرها المحدقة. عندما نبتعد عن المخاطرة في أثناء بحثنا عن الحقيقة، نتغلف ونحتاط بالآراء إزاءها. هكذا تكون الآراء سياجاً حول الحقيقة – اللغم.

مع ذلك، وكون هذه المخاطرة بلا آثار مادية ظاهرة، فإنها ربما لذلك تكون أكثر تطلباً وحذراً. فما لا نراه قد يحرمنا مما يطوف حولنا ويسير أمامنا سير الظلال البطيء حول صباح مشمس، لطالما شُبّهت الحقيقة به. لكن الحقيقة حاجةٌ قبل أن تكون غاية، ومثلما جرى سجن الإنسان في رفاهيات مزيفة ونهمة، يجري إبعاد الحقيقة إلى جوهر متعالٍ ومجرد عن وقائع ملموسة، على ما يُقال إن "كل هو صلب يكاد يتحول إلى أثير".

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
15 مارس 2024
شعر
28 ديسمبر 2021
آراء
17 مارس 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.