}

"أحلك ساعة" في حياة ونستون تشرشل: الاحتفاء بمجرم حرب!

سناء عبد العزيز 19 مارس 2018
تغطيات "أحلك ساعة" في حياة ونستون تشرشل: الاحتفاء بمجرم حرب!
وينستون تشرشل
يبدو أن بوسع الكلمات والخطب الرنانة أن تمحو تاريخ صاحبها، مهما أوغل في القتل الجماعي والاستهانة بمصائر البشر. كما يبدو أن الغرب يراوده الحنين إلى استعادة ماضٍ من الحروب الدموية، للتمويه على التباس اللحظة الراهنة وسطحيتها، والانتصار لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة عبر موجة سينمائية جديدة، تطرح أخطاءً كارثية لقادة لن يغفرها لهم التاريخ أبدًا، على أنها أخطاء بشرية مقبولة في سياق اللحظات العصيبة!

لقد رحل رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل منذ أكثر من نصف قرن، وتحديدًا في العام 1965، تاركًا وراءه كمًا من الأقوال والخطب تنم عن قدرة مذهلة في التعبير، واللعب بالكلمات واستثارة الجموع، ربما هي كل ما تبقى منه. لإزاحة ركام من الخراب، وقرى أبيدت عن بكرة أبيها في أقل وقت ممكن، حسب التعليمات الواردة. ولا عجب في ذلك، فقد تنبأ تشرشل نفسه بذلك، ولم يكن يغالي إذن حين قال: "التاريخ، سيكون لطيفاً معي، لأني أنوي كتابته بنفسي".

لمن تُمنح الجوائز؟

كتب شاشي تارور مؤلف كتاب "الإمبراطورية الشائنة: ما فعله البريطانيون في الهند"، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الهندي، أن تشرشل ليس بحاجة لأن ينزعج، فعلى الرغم من كونه واحدا ممن اشتهروا بجرائم القتل الجماعي في القرن العشرين، فهو القاتل الوحيد -على عكس هتلر وستالين-  الذي نجا من الخزي التاريخي في الغرب. بل تم تتويجه بجائزة نوبل للآداب، ما غيرها!، في عام 1953، عن أعمالٍ تاريخية لا تمت للأدب بصلة، سوغته اللجنة المانحة بـ "براعته في التصوير التاريخي".  

وأخيراً منحت هوليود جائزة الأوسكار للممثل الذي جسد دوره (غاري أولدمان) في فيلم "أحلك ساعة" من إخراج جو رايت. ويتناول الفيلم الأيام الأولى من اندلاع الحرب العالمية الثانية حين تولى ونستون تشرشل منصب رئيس الوزراء، وكان عليه اتخاذ القرار؛ إما بالتفاوض مع هتلر؛ وإما محاربته. فاختار الثانية وأصر عليها. مكرراً في خطاباته أمام مؤيدي سياسته: "لا أعدكم إلا بالدم وبالدموع والبكاء والألم".

فضلا عن أن شخصية تشرشل استلهمت في حوالي 16 فيلمًا ومسلسلًا، ومُنح دكتوراه فخرية سبع مرات، واختير الأول من بين "أعظم 100 بريطاني" حسب استبيان شعبي، وقامت بريطانيا بسكّ عملة نقدية بصورته واسمه، كما تم تكريمه في مدينة القدس -التي أسلمها بيده لليهود- بتمثال برونزي!

من الواضح أن للكلمات سحرها، فكما تؤكد هوليود، أن شهرة تشرتشل (كما أطلق عليها هارولد إيفانز "قلب أسد بريطاني على أسوار الحضارة") قامت بأكملها تقريبًا على لهجته المتقدة وموهبته في الخطابة وبخاصة أثناء الحرب العالمية الثانية. "لن نتخاذل ولن نفشل، سنستمر حتى النهاية... سنقاتل على الشواطئ، سنقاتل على الأرض، سنقاتل في الحقول والشوارع... لن نستسلم أبدا". وهو الكلام الذي شجبه المؤرخ البريطاني جون شارملي واعتبره محض "هراء متعاظم".

أما شاشي تارور فيذكر في مقال له في "الواشنطن بوست" أن الكلمات، في النهاية، هي كل ما يمكن أن يشير إليه المعجبون بشخصية مثل شخصية تشرشل. لا شيء سوى الكلمات، ولكن أفعال الجنرال، أمر يختلف كليةً. وبناءً عليه؛ راح يستعرض تاريخا من التصرفات والجرائم ارتبكها الجنرال المُحتَفَى به إبان فترة حكمه، تدل في مجملها على أننا بإزاء مجرم حرب، جسدته السينما في العديد من الأفلام باعتباره منقذا لبلاده في أحلك ساعة تاريخية مرت بها، وهذا أيضا ليس بمستغرب فقد جاء على لسان تشرشل: "أنا مستعد أن أتحالف مع الشيطان من أجل بلادي"!


تاريخ يضج بالعار

خلال الحرب العالمية الثانية، أعلن تشرشل تأييده الكامل "للتفجيرات الإرهابية". وكتب أنه يريد "هجمات مدمرة لأقصى حد، تفجير بقاذفات ثقيلة للغاية". وبالفعل ما حدث تسبب في أضرار مروعة، ورعب هائل يتماثل مع قصف مدينة دريسدن الألمانية الذي لم يكن له مبرر عسكري، بل اشاعة الرعب في نفوس الألمان.

وعن هذه الحرب التي راح ضحيتها أعداد مهولة من البشر، يذكر السياسي والكاتب الأميركي باتريك بوكانان بعنوان "تشرشل وهتلر والحرب غير الضرورية" أن الحرب العالمية الثانية أسهمت في تخليد بعض القادة العظام، من بينهم ونستون تشرشل، صاحب أسوأ القرارات، والمعارك الفاشلة من دون تخطيط واضح ومحدد. وهو الذي جعل من ترويع المتظاهرين بالقنابل الملتهبة وسيلة مشروعة في كل غرب أوروبا، لأنه أول من اقترحها وقام بتنفيذها. كما يذكر في كتابه أن تشرشل كان معجبًا أيما إعجاب بشخصيات تشابهت معه في تاريخ القتل الجماعي مثل هتلر وموسوليني.

وفي الكفاح من أجل الاستقلال الإيرلندي، كان تشرشل، بصفته وزيرا للخارجية، واحدا من عدد قليل من المسؤولين البريطانيين المؤيدين لقصف المتظاهرين الايرلنديين، بل اقترح في عام 1920 أن الطائرات يجب أن تستخدم "نيران المدافع الرشاشة أو القنابل" لتفريقهم. بنفس الآلية كان تعامله مع الثورة الشعبية العراقية عام 1921، باعتباره وزير خارجية للمستعمرات، فتصرف كمجرم حرب قائلا: "أؤيد بشدة استخدام الغاز السام ضد الشعوب غير المتحضرة. فسوف يسهم ذلك في نشر رعب حقيقي". لقد أمر تشرشل بقصف على نطاق واسع على العراق، لوقف ثورة العشرين، وأبيدت جراء ذلك قرية بأكملها في 45 دقيقة.

أما في أفغانستان، فقد أعلن تشرشل أن البشتون "بحاجة إلى الاعتراف بتفوق العرق البريطاني وأن كل الذين يقاومون سيقتلون بلا هوادة". وكتب يقول: "لقد تقدمنا بنظام، قرية وراء قرية، دمرنا المنازل، وردمنا الآبار، ونسفنا الأبراج، وقطعنا الأشجار الظليلة الضخمة، وأحرقنا المحاصيل وحطمنا الخزانات في خراب عقابي. ... قبضنا على كل زعيم قبيلة وقطعناه إربا في الحال". وفي كينيا، قام تشرشل -إما بشكل مباشر أو بالتواطؤ مع السياسات المتعلقة بالنقل القسري للسكان المحليين من المرتفعات الخصبة- بإفساح الطريق للمستوطنين الاستعماريين البيض وسوق أكثر من 150000 شخص إلى معسكرات الاعتقال. واستخدمت السلطات البريطانية جرائم الاغتصاب، والإخصاء، واطفاء السجائر في المواضع الحساسة، والصدمات الكهربائية لتعذيب الكينيين تحت حكم تشرتشل.


تشرشل أكثر رجعية من الانجليز

لكن ضحاياه الرئيسيين -حسب رأي تارور- فكانوا الهنود، لقد سماهم تشرشل "شعبا متوحشاً ذا دين متوحش". ولولا رفض الحكومة استخدام الأسلحة الكيميائية في الهند ما تورع تشرشل عن فعل ذلك من دون أن يطرف له جفن، وقابل اعتراض زملائه بهذا التوصيف: "مفرطي الحساسية"، معلنا أن "الاعتراضات على استخدام الغاز ضد المواطنين غير معقولة".

وفي السياق ذاته، يبدو تطويب تشرشل كرسول للحرية منافيا للعقل في ضوء إعلانه عام 1941 أن مبادئ ميثاق الأطلسي لن تنطبق على الهند والمستعمرات الملونة. لقد رفض رؤية أشخاص ملونين يحق لهم التمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها هو نفسه. وصرح "مناصرو غاندي وكل ما يرمز إليه .. عاجلاً أو آجلاً، لا بد أن يقبض عليهم ويتم سحقهم". في مثل هذه الأمور، كان تشرشل أكثر رجعية من زملائه في الحكومة، بوجهات النظر المتطرفة التي لا يمكن التغاضي عن أنها "تعكس روح العصر". حتى إن وزير خارجيته لشؤون الهند، ليوبولد آيمري، اعترف بأنه قد لا يرى إلا القليل من الاختلاف بين موقف تشرشل وأدولف هتلر.

 وبفضل تشرشل، تعرض حوالي 4 ملايين من البنغاليين للمجاعة حتى الموت عام 1943. وأمر تشرشل بتحويل الطعام من المدنيين الهنود الذين يتضورون جوعا إلى الجنود البريطانيين  المجهزين جيداً بالأغذية وتخزين الامدادت الغذائية الأوروبية في اليونان وأماكن أخرى. عندما ذُكِّر بمعاناة ضحاياه الهنود، كان رده أن المجاعة كانت خطأهم الخاص، "لأنهم يتكاثرون كالأرانب". وفي كتاب للصحفية الهندية مادوسري مكرجي بعنوان "حرب تشرتشل السرية" تطرقت لدور تشرشل في مجاعة البنغال مصحوبًا بالوثائق، جاء فيه أنه بينما كان الهنود يتضورون جوعًا، تضخمت أسعار المواد الغذائية جراء المشتريات البريطانية وتم تصدير فائض الهند الخاص بها، في حين لم يُسمح للسفن الأسترالية المحملة بالقمح بتفريغ حمولتها في كالكوتا (حيث تغطت الشوارع بجثث أولئك الذين ماتوا من الجوع). بدلا من ذلك، أمر تشرشل بشحن الحبوب إلى مستودعات التخزين في البحر المتوسط والبلقان لزيادة المخزونات الاحتياطية لغزو مستقبلي محتمل لليونان ويوغسلافيا. لقد امتلأت المستودعات الأوروبية بينما كان البنغاليون يموتون جوعاً.


اقتلاع شعب من جذوره

يختم شاشي تارور بالقول إن الأوسكار تكافئ سيرة أخرى وترف سيرة مثل هذا الرجل البغيض إلى متسوى القديسين. من أجل العراقيين الذين هاجمهم بالغاز، ومتظاهري اليونان الذين حصدهم حصدا في شوارع أثينا عام 1944، والافغان الباشتون والإيرلنديين، وكذلك للهنود مثلي، فثمة دائما لغز بشأن بعض الخطب المدمرة التي تتكفل بغسل بقع الدماء عن يدي تشرشل العنصريتين. لسوف يتذكر الكثير منا تشرتشل كمجرم حرب وعدو للأخلاق والإنسانية، وإمبريالي معصب العينين لا يأبه بقمع الشعوب غير البيضاء. وأخيرًا، لقد تمثل أكبر فشل له -أكثر ساعاته ظلمة- في حرماننا -نحن الهنود- من الحرية.

فوق كل ما أورده الكاتب تارور، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الهندي، في مقاله عن جرائم تشرشل في الهند وافريقيا، تبقى جريمته، وجريمة الحكومة البريطانية التي لا تمحوها الكلمات هي اقتلاع شعب من جذوره وتوطين آخر مكانه؛ ففي عام 1921 زار تشرشل مصر وفلسطين، وتعرف على معاناة الشعب الفلسطيني وأبدى تفهمًا لما فعلته بريطانيا في فلسطين، ومناطق أخرى في العالم العربي، وعلى ضوء هذه الزيارة، قطع وعدًا بإلغاء وعد بلفور، ولكنه حين عاد إلى بلاده استخف بما قاله وأصدر "الكتاب الأبيض" الذي جاء مفسيرًا لوعد بلفور، ونفى وقتئذ تعهداته للعرب في هذا الصدد، مؤكدًا على حق اليهود في أرض فلسطين، وهو من شبه الفلسطينيين بالكلاب قائلا: (إن أنت ربطت كلبا بمذود فلا يظنن أنه ملك له). وفي اجتماع لندن 1944 برئاسة تشرشل قرر الاعتراف بفلسطين دولة يهودية وتهجير أهلها إلى الأقطار المجاورة.

نختم بواقعة لونستون التي تكشف عن حقيقته اللامبالية تجاه مصائر الآخرين، واستهانته بالحياة، فذات يوم حاصرت الشرطة منزلا للقبض على لصين، كانا مجرد لصين، ولكن تشرشل اقترح عليهم تفجير المنزل بدلا من تحمل أي مخاطرة، وحين اشتعلت النيران في المنزل منع رجال الإطفاء من إطفاء النيران إلى أن تفحمت الجثتان!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.