}

"أخي... أرضي": قصة من فلسطين عن المقاومة

سناء عبد العزيز 11 مارس 2024
سامي هرمز وسيرين صوالحة 


صدر حديثًا، عن مطبعة ريدوود، كتاب مهّم جدًّا لفهم ما يجري الآن على أرض فلسطين المحتلة. كتبه سامي هرمز، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة نورث ويسترن في قطر، بمعاونة سيرين صوالحة، وهي فلسطينية تدرس في أميركا، وتعمل في الأمم المتحدة، جمعتها الظروف بهرمز أثناء دراسته في برستون، ويبدو أنه شغف بقصة عائلة الصوالحة؛ أهل سيرين، فراح يستمع إليها على مدار عشرين عامًا. ما ينبهنا قبل الشروع في القراءة إلى مدى أهمية القصة التي بين أيدينا وصلاحيتها لتعميم الصراع الدائر في فلسطين، إذ ظلت المسودات تروح وتجيء بين هرمز وسيرين لاستكشاف قصة شعب بأكمله كما أخبرتها سيرين، وذلك بين دفتي كتاب يحمل العنوان الدال "أخي، أرضي: قصة من فلسطين".
كان صراعًا حقيقيًا طوال العشرين عامًا، يعترف هرمز، "لكنني شعرت أنني حصلت على هدية قيمة رغم هول المسؤولية. أعتقد أن مهمة تأليف كتاب مشترك بدت مرهقة في بعض الأحيان، ولكني سعيد حقًا لأنه اكتمل وظهر في هذه الحياة، وليس في حياة تالية".

جعلوني إرهابيًّا...!
يستمد الكتاب مادته من قصصٍ واقعية تحكيها سيرين لهرمز، لا بغرض التسلية والاستمتاع، كما حال شهريار المضطجع على فراشه الوثير، وإنما ليعاد تمثلها من خلال شخص محايد يستمع ويواصل البحث في الأرشيفات، ما يبرئه من هنات عدة، لعل أهمها المغالاة والتباكي والتحيز. بالإضافة إلى قصص خرافية من التراث الإنساني كانت سيرين يومًا ما ترويها لأخيها الأصغر إياد المعتقل الآن في سجون إسرائيل، منها قصة الشاطر حسن، والصعاب التي واجهها كي يحرر الجوهرة المسروقة. لقد تمكن الشاطر، عبر طريقه المحفوف بالمخاطر، من مناورة سبعة ضباع يحرسون تلالًا سبعة، وعاد سالمًا بالجوهرة ليفوز ببنت الملك ويعيشان في ثبات ونبات. مثل هذه الحكايات تنبثق هي وغيرها من ألوان القص الشفهي والمذكرات والحوارات، من الحكاية الكبرى التي تمثل الإطار العريض الجامع بينها. وهي قصة مقاومة فريدة من نوعها، عن عائلة فلسطينية متعددة الأجيال اختارت وقت التهجير في نكسة 67، العودة إلى أرضها وتحمل التبعات كاملة.




كما يبدو من العنوان، فإن الأخ هو المحور الذي تدور حوله الأحداث كافة. وهو بالفعل الموضوع الذي يستحق المناقشة في مأزق فلسطين الراهن. إياد أخو سيرين أحد المتهمين بالإرهاب، نزحت عائلته على مدار عقود، وبقيت نواة الصوالحة، الجد والجدة، ومعهم أسرة إياد، في قرية كفر راعي الفلسطينية، يواصلون بدأب زراعة أشجار الفواكه، وحصد الزيتون الذي يحمل هوية شعب بأكمله. في تعليق له، كتب الإعلامي باسم يوسف: "ضع قليلًا من الزيت" هو الرد على كل شيء في فلسطين. جوعان؟ تناول قليلًا من الزيت. مريض؟ دلك به موضع وجعك. هل تريد أن تشعر بتحسن تجاه العالم؟ الزيت قديم قدم الأرض موجود لأجلك. إنها ليست مجرد أشجار زيتون. إنها عائلتك. نذرت نفسها لإطعامك وشفائك ورعايتك.
ولد إياد عام 1974، في ظروف خانقة، تكاد تنعدم فرصه هو وغيره من الشباب الفلسطينيين، في تغييرها، ومع تصميمه على البقاء واستعادة أرضه كما هو متوقع من أي رجل شجاع، وجد نفسه في وضع محرج عند كل منعطف بسبب نقاط التفتيش العسكرية والجدران الخرسانية والأسوار والحواجز والقوانين والسلطة التي تخفي رعبها في تعمد إذلالهم، سواء بالضرب، أو الاعتقال.
كان كل طريق يسلكه إياد يحفزه على الثورة ويشحنه بفورات من الغضب. في مقال لبريان تانجواي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ويلفريد لوريير، يرصد خيبة أمل إياد وغيره على النحو التالي: "لقد غيرت النكبة، إلى جانب حرب الأيام الستة عام 1967، واتفاقيات أوسلو عام 1993، الخريطة، ومعها حياة وآمال أجيال من الفلسطينيين. لطالما أثبت الفلسطينيون قدرتهم على المقاومة، لكن قدرتهم على التحمل دفعوا ثمنها باهظًا من الدماء والخسارة والسلب وخيبة الأمل. ومن أجل فرض تفوقها، قامت إسرائيل ببناء دولة حامية شديدة بدعم دولي ثابت وسخي، وخاصة من الولايات المتحدة". وهنا يقرر إياد المجازفة، وتعريض نفسه وأهله للخطر المباشر، وذلك بالانضمام إلى حركة الجهاد الإسلامي، وتبرير العنف للوصول إلى الغاية. وما بين طرفة عين وغمضتها يتحول الشاب الطموح إلى مطارد، ويصبح في عرف إسرائيل إرهابيًا وقاتلًا، فينتهي به المطاف معتقلًا في السجون الإسرائيلية.

ما أخذ بالقوة
يفتتح الكتاب في أكثر الأماكن عدائية، وفق تصنيف المكان ودلالاته في الأدب. نحن في قاعة الزوار في سجن إسرائيلي، حيث يجلس إياد لأول مرة مع أمه وأخته بعد سنوات طويلة في المعتقل. كانت آخر مرة تلتقي به سيرين، تتذكر، منذ عقد ونصف العقد، قبل سفرها إلى أميركا، ولم يفتها مدى اغتباطه بنجاح أخت له في اجتياز الحدود إلى مكان آمن. بعد عام واحد من سفرها، تفاجأت سيرين باعتقال أخيها. وها هي تنجح اليوم فقط في زيارته دون قضبان. لكن نجاح سيرين في مجرد الجلوس وجهًا لوجه مع أخيها، واحتضانه ولمسه، لا يتحقق إلا بمنتهى الصعوبة، وعبر رحلة تشبه رحلة عوليس، تبدأ من أول النهار، وتنتهي في آخره، بسبب العوائق تلو العوائق بلا نهاية تقريبًا.
برغم الفرحة والبشاشة البادية على وجه الشاب لأن شيئًا جديدًا يحدث، وربما يساعده على الخروج من السجن الذي أكل أجمل سنوات حياته، سرعان ما يفقد الحديث حيويته، وتعاد الأسئلة نفسها عن صحته وطعامه واحتياجاته، ثم تنتبه المرأتان لقبضة الجدران من حولهما والحضور المزعج البغيض للحراس، وقبل أن ترحلا، يتعلق إياد بأخته، ويتوسل لإطلاق سراحه، فلا تجد سيرين مفرًا من أن تطمئنه بأنها ستفعل.
يقارن تانجواي، في مقال سابق، بين هؤلاء الإرهابيين، وما فعلته اسرائيل نفسها في معرض المقاومة: "عندما مُنحت بريطانيا العظمى المسؤولية عن فلسطين بموجب انتداب عصبة الأمم في عام 1920، قامت بالحد من الهجرة اليهودية من أجل الحفاظ على السلام مع الفصائل العربية. طبقت هذه القيود خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كان ملايين اليهود الأوروبيين يائسين من الهروب من الاضطهاد النازي. إن إحجام بريطانيا عن تعديل سياسة الهجرة الخاصة بها أجبر اليهود في فلسطين على الانخراط في أعمال إرهابية لتغيير العقلية البريطانية. وقامت مجموعات مثل الإرغون، وعصابة شتيرن، بتنفيذ اغتيالات وتفجيرات، بما في ذلك مقتل اللورد موين، الوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط".
يرى تانجواي أن استخدام العنف يأتي كمرحلة أخيرة، بعد أن تغيب الوسائل السياسية المشروعة، أو تفشل بشكل متكرر في تحقيق النتائج، وبعد أن يتم إلغاء المعاهدات، أو تجاهلها، مع الإفلات من العقاب، وعندما تستنفد الوسائل الأخرى كافة، فإن الخوف وعدم اليقين يفضيان بالمضطهدين إلى المقاومة عند حدها المفرط. لهذا استقبل اليهود الإرهابيون الذين فجروا القطارات وقتلوا الجنود البريطانيين كمناضلين وأبطال، وشغلوا مناصب عليا تكريمًا لجهودهم.
إياد هو أحد ضحايا القمع، وتهمة الإرهاب الموجهة إليه هي التهمة التي وجهت إلى كل المناضلين في ظل الاحتلال، تاريخنا العربي يشهد بذلك. لكن رسالة هرمز للقراء قد لا تروق للجميع، سيما وأنه يدعو بحماس إلى المقاومة المسلحة، بعد أن فشلت الوسائل السلمية كافة. ونحن نعرف جميعًا الخراب الناجم عن كل مقاومة، يكفي مشهد واحد لطفل ينزف بغزارة حتى تطالب الأمهات بوقف الحرب أيًا كان هدفها، الأرض لا تكفي مقابل الولد، وهو ما يستقصيه العنوان صراحة حين يربط بين الأعزين، أخي، أرضي، كلاهما بحاجة إلى الاعتراف والكرامة، كلاهما على مدار عقود، مستميتان في الذود عن نفسيهما، وها هو نبات الصبار يقدم رمزًا للمقاومة، يقول باسم "أينما رأيت الصبار فاعلم أن ذلك المكان كان قرية فلسطينية". هذا ما يقولونه لك إذا زرت الضفة الغربية. لقد قامت إسرائيل بإزالة وتجريف ومحو القرى والمدن لعقود من الزمن من أجل استصلاح الأرض. لكن المشكلة هي أن الصبار يستمر في النمو من جديد. ومهما حاولوا تدمير الأرض والتربة وبناء مستوطناتهم، يعود الصبار إلى النمو من جديد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.