}

"ارفس الرتاج": عن عالم الخيل والرجال

سناء عبد العزيز 12 أبريل 2024
تغطيات "ارفس الرتاج": عن عالم الخيل والرجال
كاثرين سكانلان


إذا كنت من هواة ركوب الخيل، أو حتى من محبي المغامرة في الأدب والحياة، عليك بقراءة "ارفس الرتاج"، الرواية الفائزة بجائزة جوردون بيرن Gordon Burn لهذا العام، وهي الثالثة في رصيد الكاتبة الأميركية كاثرين سكانلان Kathryn Scanlan التي اتخذت من بيرن ملهمًا ومرشدًا في رحلتها الإبداعية. ولحسن حظها أن الجائزة تنقب بين الأعمال المقدمة عن أكثرها قربًا من روح جوردون بيرن وحساسيته، وهو المعروف بجرأته في اختيار موضوعاته وطريقة تناولها. توفي بيرن عام 2009، تاركا عشرة كتب من بينها "ألما كوجان" و"فولالوف".

حكايات من سوق الكانتو

منذ روايتها الأولى "ضباب 9 أغسطس"، أنبأت سكانلان عن وعي مختلف بالكتابة، سواء على مستوى الشكل أو المضمون. كما أظهرت براعة في إيهام القارئ بأنه حيال نوع أدبي بعينه، فإذا به يتفاجأ بذبذبات ذلك الخط الوهمي الفاصل بين الأنواع، ليكتسب ما بين يديه على الفور أبعادًا جديدة تعوض التكثيف الشديد والشح في العبارة والمشاعر. تقول سكانلان: "إن باربرا إيبلر، في دار "نيو ديركشن" للنشر، عندما قرأت كتابي، اعتقدت أنه مجرد مذكرات، ثم عادت لقراءة [العرض التقديمي]. أنا أحب حقًا أن تبدأ كتابي وأنت لا تعرف ما الذي تقرأه. لقد أحببت هذا الإحساس كقارئة، كنت أقول، ما هذا؟ ماذا أقرأ هنا؟ إنه شعور مثير بالنسبة لي".

الأكثر إثارة في كتابة سكانلان هو طريقة حصولها على مادتها وكيفية إعادة استخدامها. ولا غرابة في هذا، فسكانلان من هواة الأشياء المستخدمة، وفي مزاد علني عثرت على مذكرات تخص امرأة عجوز، كانت بالطبع لا تغادر درجها المغلق وها هي أمامها معروضة للعيان. ومن هذه المذكرات تشكلت "ضباب 9 أغسطس". في سوق أخرى لبيع الأشياء المستعملة، التقت بسونيا مدربة الخيول بطلة روايتها "ارفس الرتاج" وأخرجت من صدرها ما كان مكنونًا في تجربتها كامرأة اخترقت عالم الرجال. يبدو أن جدلية الداخل - الخارج هي ما تحفزها على تشييد عوالمها المصنوعة من الحقيقة بقدر عال من الخيال.

الراوي والمروي عليه

الصدفة وحدها هي ما تلعب الدور الأساسي في خلق حكاية، وإن كانت تعتمد في الأساس على ارتياد الأسواق بحثًا عن القصة. أما في حالة سونيا تحديدًا فهناك خيط مشترك بين الراوي "سونيا" والمروي عليه "سكانلان" يعزز الاختيار. 

تعتمد الرواية على حوارات أجرتها سكانلان مع سونيا التي عملت مدربة في ولاية إيوان. أول حوار بينهما استغرق أربع ساعات كاملة ومنه تشكلت المسودة الأولى. وطوال فترة الإغلاق، ظلت سونيا تحكي عن بعد، دونما انقطاع كما لو أن مخزونها من التجربة فاض من فرط ضخامته، بينما تصغي إليها سكانلان فحسب، على الرغم من أن سونيا لم تكن تتطرق لتفسير أي شيء، كمن يحكي لمستمع عليم، كتبت تقول: "كانت تتحدث معي كما لو كنت أعرف بالضبط ما كانت تتحدث عنه، كما لو كنت هناك أيضًا أو كنت جزءًا من مجتمع مضمار السباق هذا، وهو ما أقدره حقا. إنها صفة أحترمها في الكتب بشكل عام. أحب أن تُقال لي الأشياء بطريقة تفترض أنني أستطيع المتابعة أو الفهم. إن الغموض والتوتر في الأشياء التي لا أفهمها يجعلني أشعر بفرحة كبيرة".

بصرف النظر عن غبطة سكانلان، الحقيقة أن سونيا تدرك إلى من تتحدث كما ندركه تمامًا. سكانلان تعرف حقًا موضوعها، فهي تنحدر من عائلة مهتمة بالخيول، تربت محاطة بالحيوانات الأليفة والبرية جوار حرجة صغيرة في شرق ولاية أيوا، كما لا يخلو عمل من أعمالها من محاولة لسبر العلاقة بين الإنسان والحيوان، لا سيما مجموعتها القصصية "الحيوانات المسيطرة". لا غرو إذًا أن تجد ضالتها في سونيا بمجرد أن قدمتها أمها إليها في سوق الكانتو. وهو ما وضحته لاحقًا: "أقدر الأشخاص الذين يحترمون الحيوانات ويتفاعلون معها. علمتني والدتي ركوب الخيل من دون سرج، وكيفية رعايتها في سن مبكرة، وأصبح لي حصان وأنا في السابعة من عمري وكان نعم الصديق بالنسبة لي. كنت أجلب له الماء في عز الشتاء وأرفع عنه بالات القش، ونركض معًا في السباقات. عندما قابلت سونيا لأول مرة داهمني شعور بالألفة".

في بلد الرجال

يتألف العمل من مقالات قصيرة (أطولها ثلاث صفحات وأقصرها لا يتجاوز 15 كلمة)، وهو ما لا يتناسب بكل الأحوال مع ثرثرة سونيا سالفة الذكر، لكن براعة سكانلان كوسيط بين الحكي الشفهي على لسان المدربة ظهرت بوضوح في ضغط الحكاية إلى أقصى حد ممكن، لدرجة تحس أن لكلماتها وقع نقر حوافر الخيل على الصفحة البيضاء، أو كما تصفها ليزلي جاميسون: "تكتب سكانلان عن الحياة العادية بطرق غير عادية من خلال ضغطها جذريًا، مثل ضغط الكربون وتحويله إلى ماس".

من خلال هذه الشذرات المصفاة لأخر قطرة ترسم بورتريه شديد الواقعية لسونيا، الطفلة التي ولدت بفخذ مخلوع وتركت في الجبس شهورًا إلى أن التأمت عظامها. رغم هذا، انغوت سونيا  بعالم الخيول واشترت مهرًا وهي في سن صغيرة، وما إن بلغت المراهقة، حتى تجرأت على العيش في الإسطبلات والخدمة فيها مقابل السكن، مكيفة جسدها مع خشونة النوم في المقطورات والاكتفاء بوجبة واحدة كما حال الفرسان المعروفين بتجويع أنفسهم سعيًا وراء الخفة والرشاقة. لكن القارئ ما يلبث أن يصطدم بالعنف الجسدي الذي يعد من الملامح المتكررة في أعمال سكانلان. في نص بعنوان "كنت أراه كل يوم"، نتعرف على واحد من هؤلاء الفرسان اقتحم مقطورتها في منتصف الليل: "قال لي إنه أطلق النار على كلب"، ثم وضع مسدسه على رأسها. تقول ببساطة "تعرضت للاغتصاب"، بعدها "قمت بحلق شعري تمامًا". هكذا تلخص سونيا شروط العمل مع الرجال بطمس أنوثتها وخلع التاج.

ترسم أيضًا عبر كتابها النحيف (96 صفحة) عالم السباق الغريب، البدلات الفخمة والأحذية اللامعة، سلالات الخيل، طريقة رعايتها، لغة التسابق وعالمه المتقشف رغم كل هذا. كتبت ويندي إرسكين في مراجعتها للرواية في صحيفة الغارديان: "في سلسلة من المقالات القصيرة المستمدة من محادثات بين سكانلان وسونيا، يواجه القارئ مقطورات متداعية، وحلبات سباق، وخلفيات شاحنات صغيرة، وساعات طويلة، ووحشية، وجمالًا وفرحًا، صوت سونيا غير عاطفي وإنساني، ينبه إلى السخافة والضعف البشري".

فن الكولاج

تحتفظ كاثرين سكانلان بطزاجة الحكي الشفهي وما تفرضه حياة الرجال على مفردات سونيا الخشنة، كاشفة عن مدى تعقد حياة المهمشين، وذلك من خلال تفكيك الواقع وإعادة تركيبه لإنشاء عالم شبه حقيقي. وهي ممارسة قديمة جدًا في الفن البصري اكتسبتها من دراستها الجامعية حيث تدربت فيها على أنماط مختلفة من العمل البصري واستوعبتها، ووجدتها مثالية في تطبيقها على فن الكتابة. عندما علمت بفوزها بالجائزة، قالت بانفعال: "إنه لأمر مثير وشرف كبير أن أحصل على هذه الجائزة، التي تعتبر فريدة من نوعها في تقديرها للعمل الذي يتلاعب بالشكل والأسلوب والنوع. أنا ممتنة للجنة التحكيم ولجوردون بيرن، ولناشري، ولسونيا، موضوع الكتاب وراويته ومصدر إلهامه".

تُمنح الجائزة للكتب الخيالية والواقعية التي "تتجاوز الحدود والأنواع وتتحدى توقعات القراء"، وهو ما وجدت لجنة التحكيم التي تألفت هذا العام من الكاتبة تيري وايت رئيسة لجنة التحكيم، إلى جانب تشارلي برينكهرست- كوف، وأندرو هانكينسون، وشينا باتل، أنه ينطبق تمامًا على رواية سكانلان "ارفس الرتاج" حيث وصفتها وايت بأنها "إنجاز مذهل، تحررت من الخطوط الصارمة للنوع والشكل من خلال التركيز الشديد ليس فقط على التنقيب، بل على بناء الصوت". كما ذكر هانكينسون: "إن اختيار الموضوع، والطريقة، والتنفيذ - كل ذلك كان مثاليًا في كتاب يستحق أن يُسجل باعتباره الفائز بالجائزة".

علاوة على مبلغ الجائزة، أصبح بوسع سكانلان أن تحقق حلمها بقضاء وقت مثالي في منزل بيرن في بيرويكشاير كما كل الفائزين السابقين ومنهم بنجامين مايرز، وبيتر بوميرانتسيف، وبريتي تانيجا الفائزة في العام الماضي عن كتابها "ما بعد الكارثة" عن الهجوم الإرهابي على جسر لندن عام 2019. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.