}

خايمي هالس ديب: المغترب الأردني ذو العينين اللامعتين

أحمد عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف 19 مايو 2017

 

   لم تمر سنوات طويلة حتى استعاد خايمي هالس ديب (تشيلي، 1948، ابن أليخاندرو هالس وعديلة ديب) هويته العربية في كتابته السردية، فالروائي والمحامي وعالم التاروت سيكتب الرواية الأكثر لفتًا في أميركا اللاتينية لجالية باتت أحد أنسجة المجتمع اللاتيني، اجتماعيًا وثقافيًا. بل حتى على المستوى السياسي تأتى لها أن تشغل المناصب بعد سنوات من الكفاح والانزواء، وكان أبوه أحد هؤلاء الذين لعبوا دورًا بارزًا في السياسة، إذ شغل أليخاندرو هالس، التشيلي من أصول أردنية، منصب وزير الدولة في ثلاث حكومات، وكان من أكثر المدافعين عن "شيلنة النحاس" (أي استفادة تشيلي من النحاس التشيلي ورفع الامتيازات الأجنبية عنه).

  بدأ خايمي كتابة أول قصة وهو في السادسة، وأول قصيدة وهو في التاسعة، وأسس مجلة وهو في العاشرة، وفي السابعة عشرة نشر كتابه الأول. تعرف منذ بدايته على بابلو نيرودا وبابلو دي روخان وانضم مبكرًا لاتحاد الكتاب وصار السكرتير العام له، كما شغل منصب ملحق ثقافي لتشيلي بالمكسيك. وبالإضافة لعمله في حقوق الإنسان، أسس مراكز للتعليم العالي وكرّس وقته لإعطاء محاضرات في الجامعات الحكومية والمستقلة، كما انشغل بعلم التاروت وأسس له مركزًا.

    كتب هالس في السرد كما كتب في السياسة، ولعل أبرز أعماله السردية "المغترب ذو العينين اللامعتين"، أما في السياسة فكتاب "المائة الذين يحكمون في تشيلي".

استرداد الهوية العربية

  ينتمي خايمي هالس ديب إلى أصول أردنية فلسطينية، وهي أصول تتجلى في أعماله خاصة روايته الأشهر "المغترب ذو العينين اللامعتين". يقول الناقد الكوبي مننديث باريدس إن العمل يتكون من عناصر واقعية ممتزجة بكثافة بلحظات سحرية، فلا تنحصر الرواية في عرض متغيرات الوصول والإقامة ومتغيرات أخرى في الشخصية المحورية، بل إن حركة السفر امتثال مغامر للقدر من جانب يوسف (خوسيه بمجرد وصوله لتشيلي).

  تتكوّن الرواية من 21 فصلًا، وتقوم بالأساس على تعدد الأصوات السردية. في الفصل الأول يحكي الحفيد لحظة احتضار الجد، مرددًا سؤال: لماذا جئت لهذه الأرض؟ ليختم فصله مسلمًا الصوت السردي للراوي العليم الذي يكشف لنا تفاصيل حياة يوسف ورحيله، حياة غريبة وسحرية، ملأى بالأحلام والخيالات وأمنيات السفر، ووعد لم يتحقق حول البقاء بجبل الكرمل بفلسطين. يلتفت مننديث باريدس، الناقد الكوبي، إلى أن "المغترب ذو العينين اللامعتين" تختلف عن روايات أخرى تناولت الهجرة في نقطة مركزية: يوسف لم يهاجر بسبب الجوع ولا أزمات فلسطين، بل كانت أزمة شعورية وحلمًا بالترحال، كما يقول هالس نفسه في الرواية: "حين تقدم في البحث عن إجابات لتلك الأحلام استدار له الخوف: خاف من أن يكون قد بدأ في مغامرة قد تنتزع منه، للأبد، مراهقته المرفهة. كان ينبغي أن يتجول في طرق أحلامه القبوية، في تلك الكوابيس المنسية عند صحوه، لكنها كانت تحيط به أيامًا وأيامًا. وكان يعرف أنه قد يدخل في عالم السحر".

 الأرض التي هجر منها الجد لم تكن إلا صورة مصغرة من الفردوس، يصفها خايمي هالس بأنها "مليئة بالنباتات الجميلة والثمرات اللذيذة في مذاقها وأريجها وألوانها... مناظر طبيعية لا يتخيلها أحد في أرض الملح والحر... مأهولة بحيوانات أليفة ومسرورة لا تكف عن الغناء واللعب... بحورها زرقاء وبحيراتها من كل حجم، وأسماكها من كل نوع لم يخطر ببال بشر... أشجارها سامقة من خشب رقيق وفواح...".

  وبالإضافة لأبطال الرواية العرب، من أمينة (ساحرة شمال فلسطين) إلى فضل الدين، تستلهم الرواية فانتازيا التراث العربي بأحلام وكوابيس وتفسيرات، ليدور العمل في أغلبه في منطقة محايدة بين الواقع والميتافيزيقة، ما يتسق تمامًا مع رؤى الجد يوسف الذي يشيع حضوره/غيابه جوًا من الغرائبية.

  يتنقل يوسف من مدينة لمدينة داخل تشيلي، انتقالات ثرية تعكس معاناة مهاجر عربي في أرض النحاس، كما أنها تفتح الأفق للتعرف على العربي من منظور الأجنبي، كما يحدث في مشهد تقول فيه سيدة فرنسية "يقال إن العرب عشاق عظماء، إذ يعرفون النساء جيدًا لأنهم ينشأون في المطابخ بجانب أمهاتهم".

  في النهاية، ليس يوسف المهاجر الوحيد في العمل، وإن اختلفت أسبابه. فهناك جورج وزوجته كورينا، وهناك يوسف محمود القادم من القدس هربًا من الموت على يد الأتراك، بذلك، تعتبر رواية خايمي، بوصف مننديث باريدس، فريدة في تصورها ومحتواها وبيئتها السحرية، والرسالة المبطنة التي يرسلها هالس أن أميركا كائن خرافي بالنسبة للمهاجر العربي المكافح، هذا المهاجر الذي تقفى أثر السيد يوسف في جولاته من أجل استعادتها.

هنا فصلان من رواية "المغترب ذو العينين اللامعتين":

1)

أراك بعيني مراهق، يا جدي، بينما تموت ببطء فوق سريرك بالمستشفى. وبينما تمر الساعات بسلام، ناعمة وبلا اضطراب.

كلنا ننتظر موتك. وهاتفونا من أجل أن نكون في رفقتك في هذه اللحظات.

أعرف أني لن أبكي بيأس، غير أنني سأشعر بهذا الألم الهادئ لهؤلاء الذين يعرفون استحالة بقاء أحد للأبد في هذه الأرض. وأنت بقيت وقتًا طويلًا.

أنا ما زلت أتعلم، هل تصدقني؟

لقد مشيتَ كثيرًا، تجولت كثيرًا، أحببتنا بكل قوتك وبكل حكمتك.

تنظر لي وتبتسم. في عينيك ثمة صعلكة. تعرف أنك ستموت وتنظر مرة أخرى إلى صليب في صدري، صليب يكشف هويتي ككاهن. أتذكر ذاك الصباح منذ أشهر قليلة مضت، حين جئت لزيارتي في المعهد اللاهوتي. كنت في الدهليز واقفًا، ببدلتك الرمادية الدائمة، وكنت عجوزًا جدًا، ووسيمًا كالعادة، ومعك جدتي متعلقة بذراعك (من منكما كان يتعلق بذراع الآخر). وأنت كنت تعرف أنك ستموت قريبًا وكنت متلهفًا لرؤيتي. ولاحظت، في بريق عينيك في ذاك الصباح، شيئًا أكثر كثافة من العادة، نوعًا من السعادة الجلية، سعادة تطل على استحياء حين نكون في وسط موقف مهيب. حينها، يا جدي العزيز، جاء سؤالك المفاجئ:

- من أجل ماذا يا ابني، من أجل ماذا كل ذلك؟

من أجل ماذا؟

لم أعرف الإجابة، يا جدي، لأني كنت أعددت خطابًا لسؤال آخر: لماذا؟

السحب السوداء فوق السلسلة الجبلية، في صباح شتوي تمامًا، في وقفة عيد العذراء كارمن، كانت تبدو مضاءة بابتسامة لعوب.

وأنت، بعينيك، دون صوت واحد، كنت تكرر السؤال: من أجل ماذا؟

وكنت تعرف الإجابة.

مر شهران تقريبًا منذ تلك اللحظة، وبالأمس احتفلنا بميلاد ماريا، أم المسيح.

أراك عجوزًا على وشك الموت. أتحسس يديك، وأعرف أنك تراني وتفهمني. لهذا أسألك، يا جدي العزيز، يا جدي يوسف:

-  لماذا جئتَ إلى هذه الأرض؟

تبتسم عيناك بخبث، وأنت على وشك الضحك.

- من أجل ماذا يا جدي؟

عيناك تلمعان.

وتحكيان لي كل شيء.

 

2)

يطلق القطار سارينته في محطة تشييان، ومن مقعده في عربة الدرجة الأولى، ينظر السيد يوسف ناحية الرصيف.

محطة تشييان كبيرة وجميلة، مساحة مبلطة وواسعة ملأى بالمسافرين وأقربائهم، في حالة من الوداعات والاستقبالات الباكية مثل كل محطات العالم في العشرينية الأولى من القرن. اتساع البنايات في لحطات الذروة ليس كافيًا، لكن في حالة تشييان لا يؤثر ذلك على جمالها. بل على العكس تمامًا، تنهض عمارتها وسط الحشود.

يسود برد طفيف من ريح الجنوب، يجبر الناس في الصباحات، حتى في هذه الفترة المعتدلة من العام، على استخدام البطاطين والقبعات.

من عربته، يشاهد السيد يوسف وجوه أهل تشييان، لقد اعتاد عليهم بسهولة. بنطرة مجردة يمكنه تمييز حرفهم ومهنهم، مستواهم الاجتماعي، يخمّن تطلعاتهم ويحدس آمالهم، دوافع السفر ومكان قدومهم أو سبب وصولهم لتلك المدينة. تقفز في عيون الرجال والنساء حكايات لا يستطيع صمت أزلي متوارث أن يعكسه بصورة أخرى. سكان المدينة حريصون جدًا مع كلماتهم، لكن الأكثر حرصًا هم الفلاحون القادمون من الضواحي حتى تشييان، مدينة كبيرة بالنسبة لهم، ليبيعوا حيواناتهم وخضرواتهم ولشراء السلع الضرورية في حياتهم اليومية.

ومن عربته بالدرجة الأولى، يراقب السيد يوسف محيطه وهو جالس على مقعد من الجلد، ناعم، مريح، بأطر معدنية نظيفة جدًا. كل شيء في العربة في كامل بهائه قبل قلوع الرحلة، باستثناء رماد السجائر المتناثر من سيجارته في منفضة لامعة أيضًا ومذهبة، مثل الكراسي وأياديها.      

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.