}

مأساة الشيوخ بعض من مأساتنا

شكري المبخوت شكري المبخوت 28 أغسطس 2018
آراء مأساة الشيوخ بعض من مأساتنا
الزيتونة

قد لا يدرك الليبيراليّون والعلمانيّون العرب حجم المأساة التي يعيشها المفكّرون الإسلاميّون وشيوخ الدين، إذ يخفي عليهم الجدال الحادّ وتأكيد الواقع الراهن وحركة التاريخ للمواقف العلمانيّة، علاوة على الصرامة التي يأخذ بها الناطقون باسم الدين القضايا، ما في الردود والمواقف المتمسّكة بحرفيّة النصّ المرجعيّ من توتّر ومفارقات تبلغ حدّ التناقض.

فلم يجد الشيوخ منذ أكثر من قرن من وسيلة لمواجهة تحوّلات الواقع المعقّد وتحدّياته، إلا الموقع الدفاعيّ. وهو موقع اقتضى منهم التذكير بالنصّ وأحكامه، كما فهمها الأسلاف من الفقهاء والمتكلّمين فاستقرّت تاريخيّا، ووضع الخطوط الحمر أمام كلّ تجديد يرون فيه مساسا بالمقدّسات.

إنّهم أمام تناقض حادّ صارخ بين وقائع قوامها تجاوز أحكام "صريحة قطعيّة الدلالة"، بعبارتهم، وضرورة الوفاء للنصّ الدينيّ. وما انفكّت الهوّة تتعمّق بمقتضى اختزال الحضارات الكبرى واقعيّا في حضارة واحدة تشترك في العلم والتقنيات ورأس المال المهيمن وما فتئت تبني منظومة قيم موحِّدة باسم حقوق الإنسان بأجيالها المختلفة. وهو واقع لا يكفي معه الزعم بأنّ كل القيم العليا سبق إليها الإسلام. فعند تنزيلها إجرائيّا في صيغ قانونيّة يتبيّن الناقض وتتهاوى المبادئ والأولويّات.

والطريف أنّ مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة مثلا صار اليوم محرارا تقاس به الثقافات والقيم وطرق تنزيلها في الواقع. لذلك، لسنا نعجب لردود الفعل التي أثارها مقترح رئيس الجمهوريّة التونسيّة حول قانون المساواة في الإرث. فقد رأى فيه، على سبيل التمثيل، مدرّسو جامعة الزيتونة الذين لا يمثّلون مرجعيّة دينيّة اعتداء على نصّ مقدّس واعتبر بعض شيوخ الأزهر الحالمين بأن يتحوّلوا إلى مرجعيّة للعالم السنّيّ أنّ ما تقوم به تونس هو من باب الفتاوى الشاذة.

بيد أنّ هذا التذكير لا يقدّم أيّ تصوّر يتماشى مع التوجّه الكونيّ نحو المساواة التامّة بين الرجال والنساء. فشأنه شأن قضايا عديدة لم يتمكّن الشيوخ من إقناع الكثيرين عقليّا ولا نقليّا بأنّ "للذكر مثل حظّ الأنثيين" قاعدة في الميراث خالدة توائم العصر ولا تبديل لها رغم أنها ليست من العقائد ولا من الإيمان وإنّما مجالها المعاملات المتغيّرة بتغيّر الأحوال والعمران.

وليست المشكلة في آية الميراث في حدّ ذاتها، فكم من الأحكام التي تعتبر صريحة توقّف العمل بها أو علّقت أو تغيّرت بموجب تغييرات في العقليّات أو السلوكات أو القوانين الوضعيّة حتّى نسيت. وهو أمر ليس مرتبطا فحسب بحركة التحديث وفعلها في المجتمعات الإسلاميّة. فقد تواتر الاستشهاد بإسقاط الخليفة عمر بن الخطّاب سهم المؤلّفة قلوبهم وإسقاط حدّ السرقة عام المجاعة مثلا وكلاهما منصوص عليه في القرآن الكريم. وانتهت في جلّ البلدان الإسلاميّة أحكام الرقّ وقطع يد السارق ورجم الزاني والزانية وغيرها إلى آيات يتعبّد بها ولا نفاذ لها في الواقع. وأوقف قانون مجلّة الأحوال الشخصيّة التونسيّ الزواج بأربع والطلاق الشفويّ وسمح بالتبنّي. ولكنّ نظرة الشيوخ تراوحت بين تمجيد أعمال القدامى على أنها من باب سماحة الإسلام والتيسير على المسلمين وإنكار ما أتاه أمثال بورقيبة وأتاتورك إنكارا بلغ حدّ التكفير.

وما يلاحظ في هذا الصدد أمران. أوّلهما أنّ حركة تحديث القوانين وتجاوز بعض ما جاء في النصوص مستمرّة لا يجد أمامها الشيوخ إلا التنديد والإنكار دون أن يكون لهم تأثير في منعها. وثانيهما أنّ المعضلة الكبرى ترتبط في جلّ الأحيان بما يتّصل بالمرأة وحقوقها المتناسبة مع وضعها الاجتماعيّ الجديد في أغلب البلدان العربيّة الإسلاميّة. فهي في مجمل التصوّرات السائدة من حيث العقليّات والتمثّلات الاجتماعيّة في منزلة دونيّة لا يجد معها الشيوخ إلا تكريسها باسم الدين.

إنّ مأتى هذه المأساة التي يعيشها الشيوخ، سواء أكانوا رسميّين أم معتدلين أم وسطيّين أم متطرّفين، اشتراكهم في تصوّر قوامه جعل الواقع مطابقا للنصّ بما أنّه، في تقديرهم، لا يمكن فهم صلاحيّة الإسلام لكل زمان ومكان إلا خارج التاريخ والعمران. وهو ما يعني عندنا عجزهم الفادح عن تدبّر النصّ المرجعي من جهة وفهم التوجّهات الجديدة في المجتمعات والعالم من جهة ثانية لاستباق ذلك بتصوّر شامل لا يفرّط في كونيّة الرسالة الإسلاميّة والتغيّرات الكبرى في الكون الذي نعيش فيه.

فمن دون مثل هذا التصوّر الاجتهاديّ سيظلّون خارج التاريخ يهدّدون الشريعة نفسها ويسرعون بها إلى زوالها من حيث لا يريدون ذلك. فالرهان أكبر مما يعتقدون رغم أنّ المفكّر التونسي الألمعيّ الطاهر الحدّاد فهم ذلك منذ ثلاثينيات القرن الماضي فقال: "إنّ فكرة التقدّم إذا نضجت في أبناء الأمّة تستأصل الشريعة من أصلها كما صار في تركيا اليوم ويصير في غيرها من البلدان التي لم تقبل مبدأ التطوّر في شريعتها. فلنختر نحن الأفريقيّين [أي التونسيّين] أحد أمور ثلاثة: إمّا الجمود على ما نحن فيه اليوم من التأخّر وإمّا قبول التطوّر مع الشريعة وإمّا قبوله بقطع الصلة معها إذا لم يقبل عامّة الأهلين ارتباطها مع حياة التقدّم التي نسعى إليها جميعا". 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.