}

في الحاجة إلى صراع الهوّيّات والمواطنة الغائبة

شكري المبخوت شكري المبخوت 25 نوفمبر 2018
آراء في الحاجة إلى صراع الهوّيّات والمواطنة الغائبة
لوحة للفنان المصري شعبان الحسيني

لسنا في حاجة إلى استدلال على ما تشهده ثقافتنا العربيّة بمختلف روافدها القطريّة من حديث ممجوج عن الهويّة. وهو حديث يعبّر عن قلق وخوف وانعدام ثقة أكثر ممّا هو توكيد لواقع ثقافيّ أو تاريخيّ. فالأصل أنّ كلّ هويّة لا تعدو أن تكون بناء نفسيّا وذهنيّا مؤمثلا وصنعا  لأسطورة موحّدة ورواية مشتركة ترمي إلى وصل المنفصل ورتق الفتق باسم التماسك والانسجام. فبين الانتماءات القطريّة المنتصرة في جدل الهويّة تعدّد واقعيّ وتوحيد سياسيّ من ناحية، والأعماق الشعوريّة والوجدانيّة عروبيّة كانت أو إسلاميّة من ناحية أخرى ضروب من الصراع والتنافر لا تخفى. فننضّدها في نوع من التراتب حتّى لا تتناقض فتفسد وهم الانسجام وتمسّ بوحدة الكيان السياسيّ أو نوسّعها بحثا عن وصف أدقّ لتعدّد مكوّنات الهويّة كأن يكون التوسيع إلى فضاءات ودوائر أكبر متوسّطيا أو إفريقيّا مثلا.

وتصاحب التوسيع، على سبيل ردّ الفعل أحيانا وتحديد مقامات الانتماء أحيانا أخرى، ألوان من التضييق. فتبرز انتماءات تناقض مبدأ الدولة الحديثة وشروط المواطنة من قبيل الطائفة والعرق والقبيلة والعشيرة. والحاصل من هذا التوسيع وذاك التضييق في الغالب مزيد من البلبلة والحيرة لدى الأفراد والمجموعات والابتعاد عن الأفق الواضح الذي يجعل الإنسان العربيّ إنسانا حديثا حقّا يؤسّس مواطنته الغائبة باعتبارها عقدا بين الفرد والدولة.

ولسنا نعترض هنا على بحث الفرد عن معنى وجوده، أو بعض أبعاده على الأقل، في تلك الأصناف المطمْئِنة من الانتماء. فليس غريبا أن تتعايش في الثقافات والمجتمعات المأزومة بقايا من أفكار ما قبل حداثيّة وأخرى تناقضها. لكنّ البيّن أنّ بحث الفرد عن جماعة ينتسب لها كثيرا ما يضع حرّيّته الفرديّة ونحت مساره الشخصيّ وما يترتّب عنهما من مسؤوليّة وقدرة على تعريف ذاته المستقلّة موضع شكّ يبلغ أحيانا حدّ نفي كيانه على نحو يعطّل سيرورة تأسيس حريّته باعتبارها شرطا لمواطنته.

إنّه مشكل ثقافيّ جذريّ لا شيء يدلّ على إمكان الحسم فيه في المدى المنظور.

إذ تمثّل هيمنة هذه الكلّيّات المجاوزة للذات الفرد الخانقة لها والواقعة اجتماعيّا وسياسيّا وتاريخيّا في حيّز ما قبل الدولة الحديثة مشكلةً حقيقيّةً كثيرا ما تدفع بعض المثقّفين، في لحظات التوتّر الشديد وطفوّ الصراع بين مختلف هذه المكوّنات على السطوح، إلى الضجر والانزعاج من هذه الحال.

لكنّنا نعتقد أنّ هذا الشعور بالضجر والانزعاج على مشروعيّته لا ينفي وجود هذه الهوّيّات القلقة التي تزيد في اغتراب الأفراد وقمعهم وضياعهم إلى حدّ استحالتها إلى هويّات مدمّرة للذات وللآخر على ما نشهد في الصراعات باسم الطوائف أو توظيف الدين في الصراع السياسيّ مثلا.

وقد بدا الأمر أحيانا كثيرة من باب صراع المثقّفين وأوهامهم اللّذين يتخذان طابعا هوويّا على حساب المشكلات الواقعيّة الحقيقيّة من قهر سياسيّ واستغلال اقتصادي وتفكّك اجتماعيّ. بيد أنّ النظر المدقّق يكشف أنّ المشكلة ليست فعليّا في رسم السياسات التنمويّة فحسب كما لو كانت المسألة تقنية بل تكمن كذلك في عدم الحسم في هذه المسائل المرتبطة بالهوّية. فلم تخض مجتمعاتنا الصراع الحقيقيّ الكفيل بحسم الأمر لذلك ما زلنا نتردّد بين هويات طائفيّة خاضت أوروبا على مدى عقود طويلة ما يشبهها حتّى تأكّد الجميع من أنّه صراع عبثيّ لا بديل عنه إلا التعايش وما زال بعضنا يشكّك في شرعيّة المطالب الثقافيّة للأقلّيّات كما لو أنّ في تحقيقها على نحو متوازن مساسا بالوحدة الموهومة وتفكيكا للأمّة المفكّكة أصلا.

إنّ خوض صراعات الهويّة إلى أقصاها بجرأة ووضوح يخرجانها إلى العلن ويدرجانها في نقاش عموميّ صريح لكفيل بالتمهيد إلى تجاوزها. وتجاوزها يعني الاقتناع عمليّا بأنّ هذا المكوّن أو ذاك ممّا نزعم تثبيته والدفاع عنه إنّما هو وهم مصنوع مهما تكن مبرّراته التاريخيّة والثقافيّة يحتاج إلى أن يدرج في سياق جديد أكثر شمولا يحفظه دون أن يؤمثله ويستبقيه دون أن يتركه يهيمن على هويّة هي خير وأبقى ونقصد هويّة المواطنة التي لا تكون إلا واحدة موحّدة في شكلها متعدّدة متنوّعة في مضمونها.

   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.