}
قراءات

علاء الأسواني يناقش العلاقة المحرّمة بين الإعلام والسياسة

شكري المبخوت

5 ديسمبر 2018

 

هل يمكن بعد حوالي سنوات سبع أن نكتب قصّة الثورات العربيّة؟ هل اتخذنا مسافة التأمّل الضروريّة والكافية لنروي حكايات متشعّبة ما نزال نعيش ارتداداتها وأصداءها إلى الآن؟ وقبل ذلك هل انتهت هذه المسارات المتعدّدة حتّى تكون لنا العين الثاقبة التي ترى ما وراء ظاهر الوقائع ونثار الأحداث؟

بمثل هذه التساؤلات دخلت إلى "جمهوريّة كأنّ" (دار الآداب ببيروت، سنة 2018، 519 صفحة) لعلاء الأسواني محمولا برغبة في استكشاف التناول الفنّي لحدث جلل هو الثورة المصريّة. فالأسواني روائيّ متمكّن من أدواته السرديّة برهن في رواياته السابقة على قدرة فائقة على بناء عوالم تخييليّة متماسكة ممتعة تقول الواقع المصريّ بحذق فنّيّ وبلاغة سرديّة نادرين. فكيف سيتعامل مع أحداث الثورة المصريّة بعيدا عن منزلقات التأريخ والتوثيق للحظة؟

في بناء فصول الرواية

وجد الأسواني حلولا عديدة ليبنى عوالم روايته التخييليّة. فقد جاءت فصول الكتاب قائمة على سرد أساسه تناوب الحكايات على نحو لا يقطع الصلة بين الفصول على اختلاف محاورها بل يجعلها تتطوّر على نحو مسترسل. فقد اختار بوعي دقيق الانتقال من حكايا اللواء الحاج أحمد العلواني الرجل القويّ في جهاز المخابرات مصوّرا مهمّته أثناء الثورة وحياته في بيته إلى حكايات أشرف ويصا القبطيّ الممثّل الفاشل الذي لم يجد غير أدوار الكومبارس والتمتّع بعائدات شقق العمارة التي يملكها لكنّ الثورة غيّرته إلى ناشط ومموّل لشبابها. ويتمثّل المحور الثالث من الرواية في المراسلات بين الشابة أسماء مدرّسة الإنكليزيّة والشابّ المهندس مازن وهي مراسلات عوّضتها أحيانا، مع تطوّر الأحداث، ألوان من الشهادات تتّصل بقضايا الثورة وتطوّراتها. وتداخل هذه الفصول والمحاور حكايات شخصيّات أخرى لا تقلّ أهميّة مثل حكاية مدير المصنع عصام شعلان اليساريّ السابق الذي أصبح من مؤيّدي النظام ونورهان المذيعة التلفزيونيّة المتألّقة ذات الجمهور الواسع من المتابعين.

ومن طريف هذا البناء أنّ الرواية قامت على ضروب من الترابط الداخلي بين فصول كلّ محور. فكثيرا ما عمد علاء الأسواني إلى إيقاف الفصل بحدث مفاجئ يمهّد للذي يليه ضمن المحور الواحد في تناسق شبيه بكتابة الدراما التلفزيونيّة وتقطيع المشاهد فيها. وهو ما قوّى التشويق في "جمهوريّة كأنّ" بشدّ القارئ إلى أحداثها وتطوّراتها.

وانطلاقا من هذا البناء الأساسيّ في صياغة حكايات الثورة المصريّة جاءت الحبكة مركّبة تتتابع فيها أصول الشخصيّات ومصائرها على نحو متداخل متكامل قوامه التوازي من ناحية والالتقاء في بؤرة مركزيّة هي الثورة المصريّة من ناحية ثانية. وكلّ ذلك يرد في السرد من زوايا في النظر متعدّدة وأصوات متنافرة متناسقة في تعبيرها عن المواقف المختلفة، سواء عند اندلاع الأحداث أو عند كسر إرادة التغيير ومحاصرة شباب الثورة بعد رحيل مبارك إيذانا بعودة النظام القديم وتشفّيه ممن كانوا وراءها من فاعلين وقادة وجمهور حلم يوما بإيقاف آلة الفساد والقمع.

ألاعيب الدولة العميقة

إنّ هذه الأصوات المتنافرة المتفاعلة في الرواية ووجهات النظر المتعدّدة والمواقف المتصارعة في أمر الثورة يقدّمها بضمير الغائب راو عليم ممّا صبغ عليها بعدا واقعيّا بأسلوب سرديّ يلتقط التفاصيل دون أن يهمل الجوهريّ. والجوهريّ في تقديرنا هو تحليل الهويّات ونفسيّات الشخصيّات في علاقتها بمظهرها ومكانتها ووظائفها في لحظة تغيير هائل يحمل ممكنات عديدة ويستوعب أحداثا كثيرة. لذلك لم تقدّم لنا رواية "جمهوريّة كأنّ" سرديّة واحدة للأحداث من زاوية في النظر واحدة بقدر ما قدّمت لنا الفاعلين المختلفين على نحو يتمازج فيه المعرقلون للتغيير والمساعدون عليه. بيد أنّ هذا التعدّد الصوتيّ واختلاف المنظورات لا ينفي انحياز الروائيّ الواضح للثورة ضدّ الدولة العميقة وألاعيبها لإفشال الثورة المصريّة.

فعلاوة على التركيز على دور المخابرات والجيش بتواطؤ مع القوى الدينيّة الرسميّة والإخوانيّة في تشويه أبناء ميدان التحرير وتخوينهم وتحطيم حلمهم بالتغيير، قدّم علاء الأسواني صورة مدقّقة عن تحالف أصحاب رؤوس الأموال مع الدولة العميقة لتركيز إعلام متواطئ أدّى دورا حاسما في إشاعة الكذب وتنفير الناس من الثورة وشبابها في ضرب من العلاقة المحرّمة بين الإعلام والسياسة ورأس المال. فإدانة الأسواني لهذه القوى كانت واضحة ضمن رؤية إيديولوجيّة عبّر عنها بأشكال مختلفة انطلاقا من مشاهد روائيّة تبدو محايدة تترك للقارئ أن يستنتج ما يجب استنتاجه. فحضور صوت الروائيّ لتمرير موقفه حضور يكاد يكون غائبا إذ لا نجد تعليقا يمتزج فيه عادة صوت الراوي مع صوت الروائيّ ولكنّه يقدّم مشاهد على قدر من الفظاعة لا تترك للقارئ إلا إمكانيّة واحدة لفهم آلة القمع وإدانتها.

من ذلك الفصل المخصّص لتعذيب أسماء (الفصل 68) لإهانتها ومعاقبتها على مشاركتها في الثورة. فدرجة العنف في هذا الفصل وبشاعته لا تمكّن القارئ إلا من التعاطف مع شباب الثورة. وقس على ذلك الفصل الذي خصّصه الأسواني لاجتماع اللواء علواني مع مشاهير التلفزيون والرياضة والفنّ والإعلام وشيوخ الدين وأصحاب رؤوس الأموال لتنفيذ خطّة غسل العقول وتشويه الثورة ودفع الناس إلى الكفر بها والندم على رحيل مبارك (الفصل 33). فالكلام مقتصد واضح ملموس بطريقة لا تستدعي تعليقا وتحمل القارئ على اتّخاذ موقف ضدّ هذا التحالف البذيء من أجل الكذب.

ثورة لتغيير ما بالنفس

مقابل هذه القوى المناهضة للثورة التي انتصرت فعليّا وإن كانت منهزمة أخلاقيّا يقدّم لنا علاء الأسواني نماذج من قوى التغيير. وهي تتمثّل، علاوة على الشابين أسماء المدرّسة ومازن المهندس وخالد طالب الطبّ، في أشرف ويصا وخادمته ابنة البلد البسيطة التي أصبحت رفيقته. وقد صوّر الأسواني كيف كبر حلمهم مع أحداث ميدان التحرير وما عانوه من مضايقات وعنف. غير أنّ ما يميّز هؤلاء هو أنّ فعل التغيير لم يقتصر على الساحات والميادين إلى حدّ رحيل الدكتاتور وبعد أن انطلقت الثورة المضادّة بل شمل كذلك وبالخصوص تغيّر النظرة إلى الذات الفرد والجسد والحياة الشخصيّة.

فأسماء بفضل علاقة الحب التي جمعتها بمازن خلال الثورة حققت ثورتها الذاتيّة في نظرتها إلى السلطة الأبويّة وإلى جسدها فغادرت البيت العائلي لتعيش أفكارها ومبادئها ولم تجد في القبلة المسترقة ببيت مازن ما يشعرها بالعار. أمّا أشرف ويصا الذي عاش محتقرا نفسه بسبب فشله في أن يصبح ممثّلا تسند إليه أدوار أولى بدل أدوار الكومبارس وعاش حياته متصاغرا أمام زوجته ماجدة غارقا في الحشيش والقلق فسرعان ما تخلّص من أزمته الذاتيّة ليعيش مع الخادمة بعد أن تركت زوجته البيت في شارع طلعت حرب خوفا من الثورة. إلاّ أنّ أشرف ويصا، وهو ابن الطبقة الارستقراطيّة، وجد سعادته في التحامه مع الشعب سواء في العمل الميداني وتحويل الطابق الأرضيّ من العمارة التي يملكها إلى مقرّ لقيادة الثورة المصريّة أو من خلال علاقته بإكرام الخادمة التي صارت عشيقته فحققت له رغباته وأحبّها حبّا حقيقيّا.

وهذا الترابط بين الثورة الذاتيّة والثورة في المجتمع والسياسة لمن أجود ما استطاع به علاء الأسواني إبراز شموليّة التغيير ووعد الحريّة الذي تضمّنته الثورة. فكلّ الشخصيّات المساندة للثورة شهدت هذا التغيير في حين أن القوى المناهضة للثورة ظلّت منمّطة عاجزة عن تجاوز نفسها تدور في حلقة مفرغة من الاغتراب والعنف والزيف الإيديولوجي. وحتّى بذور الثورة التي زرعها الأسواني في بيت الحاج أحمد العلواني رجل جهاز مخابرات النافذ القويّ من خلال قصّة الحب التي نسجها بين ابنته دانية والشابّ خالد الطالبين في كلّيّة الطبّ، انتهت بقتل الشابّ بدم بارد خلال المظاهرات.

شخصيّات ثريّة

إنّ النسيج السرديّ في "جمهوريّة كأنّ" على قدر كبير من الثراء ممّا يجعل بعض المصادفات التي برزت فيه تمرّ بشكل مقبول من حيث منطق السرد. ونقصد بهذه المصادفات ما كان مثلا من علاقة بين ابن العم مدني السائق الخاص لمدير المصنع هشام شعلان وابنة رئيس الجهاز أو التجاء أسماء إلى بيت أشرف ويصا هربا من اعتداءات قوات الأمن وما تبع هذا اللقاء من تغييرات في موقف أشرف من الثورة وانخراطه فيها.

ولكنّ المبهر حقّا في هذه الرواية ما أبداه الأسواني من إتقان في رسم الشخصّيات وتقديمها على نحو دقيق متدرّج وظّفه، في آن واحد، في نحت الشخصيّات وفي تطوير الأحداث. من ذلك الكيفيّة التي استطاع بها أن يجمع في شخصيّة نورهان المذيعة الجميلة إلى صفات الخبث والانتهازيّة والنذالة التظاهرَ بالتقوى والورع والعفّة باسم الدين بما جعلها أنموذجا للوصوليّة والاستغلال وحبّ النفوذ. لقد كان رسمها ببساطة بديعا كشف شخصيّتها بقدر ما كشف نفاق الانتهازيّة باسم الشريعة وتعاليم الشيخ شامل.

وهذا ما نلمسه كذلك في رسم أبرز شخصيّة مناهضة للثورة وهي شخصيّة اللواء علواني. فقد استطاع علاء الأسواني أن يحكم النسج بين نزعاته العنيفة المتسلّطة ودفاعه غير المشروط عن النظام القائم وكرهه لأبناء الثورة من جهة، والبعد الإنسانيّ الذي يتجلّى في علاقته بابنته دانية من جهة ثانية وجانب التديّن الذي يبرّر به حياته من جهة ثالثة على سبيل تأكيد الأسواني للعلاقة بين السلطة الأمنيّة والسلطة الدينيّة.

لكن من الواضح انّ انحياز الأسواني إلى الثورة لم يمنعه من بيان وجوه من التردّد في مواقف الشخصيّات الثائرة. فمصير أسماء التي اختارت مغادرة مصر كان مخالفا لمصير مازن حبيبها. فلئن ظلّت تعتقد أنّ مصر هي جمهوريّة كأنّ القائمة على الكذب في حين أنّ "الثورة وحدها هي الحقيقة" (ص 510) فذهبت إلى لندن مفضّلة أن تكون كما قالت: "إنسانة في غير بلدي على ان أكون "ولا حاجة" في بلدي" (ص 511). بيد أنّها سرعان ما أصبحت تتكلّم مثل عصام شعلان اليساري السابق إذ تعتبر أنّ المصرّيين خذلوا شباب الثورة و"هم يحبّون عصا الدكتاتور" "فأيّ معنى وأيّ فائدة في أن تضحّي بحرّيّتك وحياتك دفاعا عن شعب يكرهك ويعتبرك خائنا" (ص 512).

بيد أنّ مازن رفض مغادرة مصر رغم سطوة الإعلام الذي أقنع المصريّين بأنّ الثورة مؤامرة والبديل عن النظام القديم هو الفوضى. إنّه مصرّ على التفاؤل مؤمن بحبّ مصر ولو ظلّ في السجن طوال حياته يعتقد جازم الاعتقاد أنّ المصريّين سيكتشفون الحقيقة قريبا يقول: "أنا متفائل. ستنتصر الثورة (...) على الرغم من كلّ القتل والتعذيب والانتهاكات وحملات التشويه (...) الثورة مستمرّة ومنتصرة" (ص 500).

   ومقابل هذا نجد نهاية أشرف ويصا مختلفة نوعا مّا. فهو من المناصرين للثورة الذين تشبّثوا بها رغم الأذى الذي لحق به. ولكنّ انتصار الثورة عنده، وفق البرنامج السرديّ الذي يميّزه داخل الرواية، برز أكثر ما برز في تغيير حياته على حساب زوجته وابنه وابنته ليواصل العيش مع إكرام. إنّها الثورة الفرديّة وقد انتصرت بتغيير واقع من انخرطوا فيها.

ولكنّنا نجد أيضا في رواية علاء الأسواني أنّ الطرف الوحيد الذي قد يتراجع عن الثورة وقد يذهب فيها إلى أقصاها هو البروليتاريا. فلئن تراجع عمّال المصنع بعد أن أداروه ذاتيّا خلال الثورة فإنّ منطق "أكل العيش" والخوف على المستقبل قد غلب عليهم. لكنّ الخلاص كان فرديّا من عمّ مدني السائق الذي فقد ابنه في الثورة بعد أن قتله بدم بارد النقيب هيثم المليجي. ففي غياب العدالة لم يبق إلا الثأر. لذلك صرف كلّ ما جمعه في حياته لابنه طالب الطبّ القتيل على عمليّة اختطاف النقيب القاتل ثأرا لابنه الوحيد.

إنّ تنوّع مصائر الشخصّيّات هو الذي منح الرواية قوّتها الفنّيّة وتعدّدها الدلالي بنسج شبكات من المعنى تسير في اتجاهات شتّى، لكنّها تلتقي في إبراز مشاهد متنوّعة من الثورة المصريّة وتحوّلاتها في فترة قصيرة تقع بين اندلاع الأحداث وقبيل وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة. بيد أنّ المرعب حقا في الرواية هو هذا الترابط المتين بين الدولة العميقة والإعلام ورجال الدين الرسميّ والإخواني. فأطلق عليهم علاء الأسواني جميعا النار في دقّة وإتقان وبخبرة الروائيّ وصاحب الموقف الصارم المنحاز إلى التغيير.

إنّها فعلا رواية لن تكتمل بما انتهت به في فصلها الأخير وهو ثأر العم مدني لابنه بل بتتبّع انفصام عرى العلاقة بين الإخوان لمّا وصلوا إلى الحكم والدولة العميقة التي انتصرت في نهاية المطاف. فللرواية بقيّة ولا شكّ.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.