}

حقوق الإنسان بعد سبعين عاماً

شكري المبخوت شكري المبخوت 12 ديسمبر 2018
آراء حقوق الإنسان بعد سبعين عاماً
لوحة الفنان عدنان الأحمد

"يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء".

بهذه المادّة افتتح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ سبعين عاما حين اعتمدته الجمعية العامة في باريس في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948. ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّه أهمّ نصّ كتبته الإنسانيّة بالاشتراك لتعبّر به عن جملة من المفاهيم التي تبدو اليوم متهافتة في الخطاب والواقع معا بالنظر إلى ما يعتمل في أرجاء المعمورة من صراعات وانتشار للتفاوت الاجتماعيّ وكراهيّة للأجانب وعودة للنزعات القوميّة الضيّقة والانغلاق على الهويّات وغيرها من الظواهر المناقضة للعالم المثاليّ الذي رسمه هذا الإعلان.

فالتراجع عن مكوّنات هذا النسيج الفكريّ لأرقى ما أنتجه العقل الجماعيّ الحديث، من قبيل المشترك الإنسانيّ والكرامة والحقوق المتساوية للبشر والتحرّر من الفزع والفاقة والرقيّ الاجتماعيّ وتساوي الرجال والنساء والعدل والسلام ووحدة الأسرة البشريّة، يكاد يلمس لمسا يوميّا بشكل مخيف.

فرغم أنّ هذا النصّ المؤسّس لثقافة كونيّة جديدة ملهمة قد ترجم لأكثر من خمسمئة لغة في العالم وصادقت عليه 193 دولة، فإنّ هذا الإجماع الواسع على ما تضمّنه من مبادئ وقيم تعدّ كونيّة ليس ثابتا لو أعيد التصويت عليه اليوم. وهو ما أكّدته أنجيلا ميركل منذ شهر تقريبا في حفل السلام بباريس إحياء لذكرى انتهاء الحرب العالميّة الأولى. 

قد لا يكون لهذا الإعلان ما يكفي من إجراءات تلزم بها الدول لكنّ أخطاء الراعيين الأوّلين لهذا الإعلان في السياسة العالميّة، أي فرنسا والولايات المتّحدة الأميركيّة، قد أضعفت من دورهما الأخلاقيّ والسياسيّ دوليّا. فقد كانت فرنسا حتّى زمن كتابة الإعلان دولة مستعمرة لم تتوان عن القتل والتعذيب ومعاملة المناضلين من أجل حريّة أوطانهم على نقيض ما يدعو إليه الإعلان. وكتبت الولايات المتحدة في ما بعد صفحات مظلمة في تاريخ الجرائم ضدّ الإنسانيّة سواء في فيتنام أو بما دبّرته مخابراتها من انقلابات في بلدان أخرى أو احتلالها للعراق ومواقفها الراعية لإرهاب دولة إسرائيل.

لقد كان الإعلان موقفا قيميّا وأخلاقيّا ضدّ البربريّة التي كشّرت عن أنيابها خلال الحرب العالميّة الثانية بالخصوص، ولكن ما نشهده اليوم من تراجع عن هذه المنظومة الحقوقيّة كأنّه إعلان واقعيّ عن انتصار الرجعيّات الظلاميّة والحقد ومنطق اقتصاد السوق المنفلت من كلّ عقلة وضابط بما يؤذن بالعودة إلى الهمجيّة والعنف الأعمى والاستغلال ضدّ تشوّف الناس إلى الحريّة والعدل والمساواة.

فهل كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مجرّد مشروع سياسيّ غربيّ لمرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية نشهد اليوم بداية نهايته بتبدّل الدوافع التي أدّت إلى كتابته؟ ألم تصمّ آذاننا القوى المهيمنة اليوم عالميّا بالنظام العالمي الجديد ونهاية التاريخ والانتصار النهائيّ للرأسماليّة في صيغتها الأشدّ وحشيّة؟ فأيّ إيديولوجية تصاحب هذا الواقع العالمي الجديد؟

يبدو أنّ القيم الليبيراليّة نفسها (حرية التعبير والدين والتنقّل والتنظّم) والمثل الأعلى الديمقراطيّ نفسه (المواطنة والمساواة والكرامة البشريّة) بقاعدته الاقتصاديّة (الأمن الاقتصاديّ) قد انهارت واستبدلت بمراقبة الناس في أدقّ تفاصيل حياتهم والتلاعب بالعقول من خلال الميديا الجديدة وتحالف رأس المال الفاسد والسياسة والإعلام وإثارة النزعات الهوويّة والدينيّة لتبرير الحروب. أمّا الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة (الحق في العمل والتربية والعمل النقابي والأجر العادل) فلم تجد باستمرار طريقها إلى الإنفاذ إلّا في حدود ضيّقة جدّا بما يسّر التراجع فيها لصالح أصحاب رأس المال وسدنة المصارف الذين صاروا يتحكّمون في الاقتصاد كلّه.

إنّ القوى المسيطرة في الغرب تتنكّر لتاريخها الفكريّ ونضالات أجيال من أبنائها سواء ما ورد منها في إعلان الاستقلال الأميركيّ سنة 1776 أو الإعلانات الفرنسيّة الثلاثة عن حقوق الإنسان بدءا من سنة 1789 أو ما رسّخه الفلاسفة من جون لوك الانكليزيّ إلى فلاسفة الأنوار.

لقد كانت اعتراضات الدول الشيوعيّة (روسيا السوفييتيّة) ثم الآسيويّة (الصين وسنغافورة مثلا) فالمسيحيّة والإسلاميّة على مبادئ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قائمة مرّة على أولويّة الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة على الحريّات المدنيّة والسياسيّة، وثانية على أولويّة الانتماء إلى المجموعة الدينيّة والثقافيّة على الانتماء الإنسانيّ الكونيّ.

لكنّ اعتراضات كثير من الدول اليوم على هذا الإعلان العالميّ تكشف الوجه الحقيقيّ لكل تلك التعلّات باسم الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة أو الثقافيّة والدينيّة. فالتوجّه الكونيّ للإعلان يبدو لدول في أوروبا (مثل بولونيا والمجر) أو أميركا اللاتينيّة (مثل فنزويلا والبرازيل مع صعود اليمين) أو آسيويّة (مثل تركيا والفيليبين) علاوة على كثير من البلدان والقيادات السياسيّة الأخرى، على رأسها الرئيس ترامب وإدارته، مناقضا للسيادة القوميّة ويمثّل تدخّلا في الشؤون الداخليّة. وليس من الغريب أن يكون هذا الاعتراض آتيا من دول تسلّطيّة يقودها اليمين وتسودها الليبيراليّة المتوحّشة.

إنّه خطاب قديم جديد أدرك خطورة هذا الإعلان المنحاز للفرد في مقاومته من أجل حرّيّته وصون كرامته. والذي يبدو مرجّحا أنّ المعركة القيميّة والأخلاقيّة اليوم تدور في موقع آخر ضدّ رأس المال وجشعه ومؤسّساته الحامية له التي لا عبرة لها إلا بمراكمة الربح على حساب البشر والبيئة حتّى إن أدّى ذلك إلى استمرار الحروب كي تشتغل مصانع السلاح.

لذلك يبدو أنّ الإعلان العالمي ما يزال أفقا للمقاومة وملهما للبشريّة ما دام النقيض، أي الاستغلال والهيمنة ودكّ كرامة الإنسان، سائدا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.