}

"حسامبا": بدايات نزعة عسكرة أدب الطفل الإسرائيلي

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 22 فبراير 2018
آراء "حسامبا": بدايات نزعة عسكرة أدب الطفل الإسرائيلي
أطفال يهود: أوروبيون في "الشرق"
تحيي عدة مؤسسات في دولة الاحتلال في فبراير الحالي ذكرى مرور مئة عام على ولادة الكاتب الروائيّ والمسرحيّ يغئال موسينزون.
وعُرف موسينزون، أكثر شيء، بأول سلسلة كتب للأطفال كُتبت باللغة العبرية بعد قيام دولة الاحتلال عام 1948. وهي سلسلة "حسامبا" (الأحرف العبرية الأولى من عبارة: "مجموعة السرّ المُطلق تمامًا") التي تُعدّ النموذج الأكثر شهرةً لنزعة عسكرة أبطال أدب الأطفال، وعسكرة القراء بواسطتهم. ويمكن إدراج هذه السلسلة ضمن جانر كتب المغامرات المثيرة، الذي كان شائعًا إلى أقصى الحدود في العالم أجمع إبان تلك الفترة. وصدر أول كتاب من هذه السلسلة في عام 1950، وظلّ مؤلفها يكتب حلقات جديدة منها حتى قبيل وفاته في عام 1994 بسنوات قليلة.

وأظهرت استطلاعات عديدة للرأي العام، أجريت بالتزامن مع صدور الكتب الأولى في خمسينيات القرن العشرين الفائت، أن قصص "حسامبا" احتلت مرتبة متقدمة جدًا في قائمة الكتب الأكثر الشعبية التي يستهويها "القراء الصغار" بين اليهود، إلى درجة أنها تفوّقت على أشهر القصص الأجنبية للفتيان في ذلك الوقت، على غرار: "روبينسون كروزو"، و"جزيرة الكنز"، و"أليس في بلاد العجائب"، و"ماكس وموريتس"، و"توم سوير"، و"ثمانون ألف ميل تحت سطح المياه"، وغيرها.

وكان للإنسان العربي حضور بارز في قصص "حسامبا" تلوّن بالصبغة العامة، العنصرية في جوهرها، التي اتسمت بها عمومًا "النظرة الثقافية" الصهيونية حياله. بل إن ثمة أبحاثًا كثيرة تشير، من دون مداورة، إلى كون هذه القصص أرست أول مدماك في تشييد الموقف التنميطي المقولب إزاء العربي، لمجرّد كونه كذلك، وهو ما واصلته سلاسل قصص أخرى يصعب حصرها، خصوصًا في الخمسينيات والستينيات وأواسط السبعينيات من القرن المنقضي.

وهذا ما كان أكده، على سبيل المثال وليس الحصر، الباحث التربوي وكاتب الأطفال أوريئيل أوفيك (في عام 1977)، بعد أن أمضى سنوات عديدة في تدريس موضوع أدب الأطفال في عدة جامعات وكليات لإعداد المعلمين. كما أشار إلى المترتبات العنصرية لمثل هذه السلاسل العنصرية، الفاسقة والخطرة، على القراء الصغار، الذين أضحوا في الوقت الراهن هم الجيل المتحكم في مختلف مؤسسات دولة الاحتلال، العسكرية والمدنية.

تحكي قصص هذه السلسلة عن مجموعة "حسامبا" الصبّارية (الصبّار أو الصابرا هو اليهودي المولود في فلسطين)، والتي تعمل معًا كما لو أنها جسم واحد.

ولقد اعترف مؤلفها بأن حماسة أولاد "الكيبوتسات" لشخصية طرزان المعروفة، هي التي دفعته إلى كتابة قصص مغامرات بلغتهم الأم (العبرية) بحيث تكون بمثابة "بديل ملائم" لقصص المغامرات الأجنبية. فضلًا عن ذلك- أضاف المؤلف- فإن المناخ العام لتلك السنوات، والذي تميّز بما أسماه "النضال اليهودي والحرب من أجل الاستقلال"، أتاح المجال أمام إمكان تقبّل قصص المغامرات.

الكتاب الأول

هكذا ولد الكتاب الأول في هذه السلسلة، الذي حمل عنوان "حسامبا أو مجموعة السرّ المطلق تمامًا" (1950)، وقبل ذلك نشر على حلقات في جريدة "مشمار للأولاد".

تدور أحداث الكتاب الأول حول ثمانية أولاد أعضاء في مجموعة "حسامبا"- هم قائد المجموعة يارون زهافي وتمار نائبته وإيهود السمين وعوزي أمين المستودع وموشيه يرحمئيل "البروفسور" ومنشيه اليمني وزملاؤهم- يحاربون الشرطة البريطانية ويحررون مخبأ الأسلحة التابع لـ"الهاغناه" وينقذون "في عملية جسورة" قائد الحركة السرية من المعتقل ويوفرون الحماية لسفينة مغامرين ويحوزون على أوسمة تقدير من القيادة العامة. وحظي هذا الكتاب بنجاح باهر، وظهرت في أعقابه على فترات متقطعة أربع وعشرون قصة أخرى من سلسلة "حسامبا".

وفي كتب أخرى من هذه السلسلة، وبينها "حسامبا في غزوة قناة السويس" (1970)، و"حسامبا في مواجهة الخاطفين أو فرسان الليل يضربون ثانية" (1977)، ظهر جيل جديد من الحسامبائيين يقوده يوآف تسور ونائبته راحيل. وبديهي أنهما يتعاونان مع يارون زهافي، مؤسس "حسامبا"، الذي أصبح قائد دائرة المهمات الخاصة في الجيش الإسرائيلي.

أوجدت سلسلة "حسامبا" ما يمكن اعتباره "موجة جديدة" في أدب الأطفال العبري، حسبما أنبأت بذلك صحيفة "هآرتس" في ملحقها الأسبوعي (10/4/1970) حين كتبت تقول: "لقد ظهر عندنا أخيرًا أبطال شبان عبريون، مثل يارون زهافي، القائد الشجاع لمجموعة حسامبا، مع سلاح عبري وحتى مع دهاة عبريين". وفي مقابلة مع صحيفة "دافار" (17/6/1970) شرح موسينزون سرّ نجاح "حسامبا" بقوله: "استجابت كتب حسامبا مع غريزة المغامرة المتأصلة فينا جميعًا، وخصوصًا لدى الأولاد. يصعب أن تجد ولدًا لا يتماثل مع فتيان في مثل عمره ينفذون عمليات عادة ما يكون تنفيذها من نصيب البالغين. إنها عمليات منسجمة تمامًا مع قدر كبير من الخيال والدقة في تطبيقها وفي قيمها المقدسة مثل الصداقة والتضحية وحب الوطن". وعلى أي حال ففي جميع القصص يخوض أولاد "حسامبا" (غالبًا بواسطة السلاح) معارك متعدّدة ويتغلبون على مجهول يرتدي قناعًا أسود وسائر الأنذال ويتخلصون من أسر الجيش العربي ويتعاركون من دون وجل مع من هم أشد منهم بأسًا وعنفًا، كما يعبّر عن ذلك المقطع التالي: "... في أثناء ذلك كان مسعود قسيس ويارون زهافي متصالبين ومتلاصـقين يوجّه كل منهما إلى الآخر ضربات موجعة ودقيقة، غير أن عوزي هبّ لمساعدة يارون، وسدّد صوب الجاسوس لكمة جانبية جعلته يركع ويسقط أرضًا" (من قصة "حسامبا والجواسيس في سلاح الجوّ"، ص144).

يجدر ذكر أن الكتابين الأول والثاني فقط من سلسلة "حسامبا" كتبهما موسينزون بأسلوب ساخر فيه قدر من الفنيّة، لكنه بعد ذلك انتقل إلى تسلية جمهور قرائه بواسطة سخرية هابطة ورخيصة وضعها على ألسنة الأخيار والأشرار على حدّ سواء. وهذا المستوى الهابط والرخيص من أسلوب كتابته أخذ في الازدياد سوية مع جعل كل فرد من أعضاء مجموعة "حسامبا" أشبه بسوبرمان صغير، ومع جعلهم جميعًا يجيزون لأنفسهم أخذ زمام القانون في أيديهم ضد الأعداء وتوجيه سهام استخفافهم نحو عالم الكبار، وحتى نحو عالم الأهل.

تتمثل الخطورة الرئيسية لهذه السلسلة في كونها حظيت بأكبر شعبية في صفوف القراء الصغار. فمثلًا في استفتاء أجري في عام 1967 حول أكثر الشخصيات الأدبية شعبية في أوساط الأولاد، تبين أن الشخصية التي حازت على أكبر نسبة من المعجبين هي شخصية يارون زهافي من "حسامبا" في أوساط الفتيان، وشخصية تمار من "حسامبا" أيضًا في أوساط الفتيات.

وكانت "حسامبا" طليعة أولى فتحت الطريق أمام نبع عكر من سلاسل مماثلة مختلفة غمرت حوانيت بيع الكتب واحتلت صدارة قائمة كتب المطالعة لدى الأولاد (1952- 1958). وهي، في معظمها، أدنى مستوى من "حسامبا"، وكان بينها على سبيل المثال: "مغامرات أولاد البلدة القديمة" تأليف حاييم إلياف، و"مغامرات حبوعوز" تأليف حاييم غيبوري، و"جماعة تشوبتشيك" تأليف أرنونا غادوت، التي كتبت سلسلة "جماعة الزملاء" باسم مستعار هو ت. أورجيل، وغيرها. لكن لا شك في أن أكثر كُتاب الأطفال غزارة في إنتاج مثل هذه السلاسل هو شراغا غفني، الذي كتب أيضًا بأسماء مستعارة مثل أفنير كرميلي وأون شريغ وإيتان درور، ودفع إلى السوق خلال سنوات معدودة سلاسل رائجة وهابطة يفوق عدد كتبها المئات.

"معمل لإنتاج عنصريين

وجانحين صغار"!

منذ خمسينيات القرن العشرين تحاول طواقم البحث في دول أوروبا وأميركا دراسة مدى تأثير أدب المغامرات والعنف على سلوكيات القراء الصغار. وعلى الرغم من عدم التوصل إلى إثباتات وقرائن قاطعة في هذا الشأن، يسود في أوساط رجال التربية رأي عام يقول بوجود علاقة متبادلة بين قراءة هذا الأدب وبين ارتفاع نسبة الجريمة والجنوح بين الشبان/الشابات الأحداث. كما أن باحثًا تربويًا إسرائيليًا نشر عام 1955 دراسة حول هذا الأدب وتأثيره على تربية الأجيال تحت عنوان صارخ هو: "معمل لإنتاج مجرمين صغار". وفي الستينيات أشارت لجنة تحقيق رسمية عينها مجلس الشيوخ الأميركي إلى وجود رابطة وثيقة بين الانتشار الواسع لكراريس الـ"كوميكس" الصارخة (وبالأخص تلك التي تصف بإبراز شديد العنف الوحشي وتدعو إلى تقديس شخصية الزعيم) وبين تواتر محاولات عصابات للفتيان من أجل فرض هيمنتها على أحياء كاملة في عدة مدن أميركية، حتى أنها أوصت بحظر توزيع هذه الكراريس. لكن السلطات الأميركية قررت في نهاية المطاف أن تلزم ناشري تلك الكراريس بعرضها على لجنة رقابة خاصة من أجل فحصها ومن ثم إقرارها.

وتجري في إسرائيل أيضًا، بين الفينة والأخرى، أبحاث تتناول تأثير كتب المطالعة على سلوكيات الأولاد والفتيان. وفي استطلاع للرأي أجرته "مؤسسة سالد" بعد مرور عقد من الأعوام على إقامة دولة الاحتلال، تبين أن "قراءة الأدب الفاسق هي ظاهرة عامة. وتقريبًا كل فتى وفتاة يقرآن هذا الأدب، ونسبة قراءته تزداد طردًا مع تقدّم السن. وبينما تشكّل هذه القراءة لدى فئات اجتماعية عليا ظاهرة عابرة وبنسبة ضئيلة مقارنة مع نسبة قراءة الكتب الجيدة، فإنها لدى الفئات الاجتماعية الدنيا تشكل ظاهرة مستمرة وتعتبر القراءة الأكثر رئيسية".

لكن إذا نحينا كل ذلك جانبًا فإن هذا الأدب، على شاكلة سلسلة "حسامبا" وما تلاها من سلاسل أكثر فسقًا وسوءًا، يُمارس تأثيرًا كبيرًا في قرائه من خلال مواجهتهم مع واقع حياة وعلاقات إنسانية يتم تصويره بضوء كاذب وتحريفيّ ومشوّه. وتكفي الإشارة إلى الفوارق الحادة، التي تجهد هذه الكتابة في توصيفها، بين الأبطال الإيجابيين، وهم دائما يهود ذوو خصائص نبيلة لا تشوبهم شائبة ومتفوقون ويعملون معًا، وبين الأبطال السلبيين، وهم دائما نماذج وحشية، ظلامية، متعطشة للدم، جبانة، خائنة، مبتذلة، مختلسة، ذات مظهر منفّر، زاعقة، بذيئة اللسان، وطبعًا تحمل أسماء مثيرة للهزء- مثل زكي خلطورة ومسطول بندورة وطورطورة وكوكورتشا ومارملدا... وما إلى ذلك. ومن نافل القول إن هذا التوصيف التقاطبي حيال "الأشرار المتعطشين للدم" من شأنه أن ينمّي في أوساط القراء الصغار كراهية عمياء للعرب واستهتارًا بقوتهم وفهمهم. وهذه الكتب لا تربي هؤلاء القراء على الاستهتار بالعرب فقط وإنما أيضا تربيهم على الاستخفاف بحياة الإنسان لمجرد كونه إنسانًا.

وربما يتجوهر أهم تأثير لهذا الأدب الفاسق في نشوء نمط معيّن من الإدراك والتفكير يتولد تلقائيًا من مسائل، هي أشبه بالبديهيات المُسلّم بها، راسخة في العقل. ولعلّ أكثر ميزان يمكنه أن يفحص هذا النمط المعين من الإدراك والتفكير هو الموقف المخصوص إزاء الإنسان العربي، من حيث أن هذا الموقف يترّبى عليه كل يهودي إسرائيلي منذ الصغر، ويكبر معه ويتكرّس كذلك بتأثير من واقع سياسي- اجتماعي يُعامل العربي بكونه أي شيء ما عدا أنه... إنسان!.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.