}

ما بين "الصهيونية الجديدة" واليمين الإسرائيلي الجديد (2-2)

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 9 أغسطس 2023
اجتماع ما بين "الصهيونية الجديدة" واليمين الإسرائيلي الجديد (2-2)
ألحقت حركة "إم ترتسو" باسمها شعار"الثورة الصهيونية الثانية"

 

تعريف:
مثلما سبق التنويه، هذه المقالة تضم قسمين: القسم الأول يحفر في خلفيات وجذور تيار الصهيونية الجديدة (
Neo-Zionism)، ويقدم قراءة في أبرز وأهم التنظيرات التي ساهمت في تأطير عقيدته. أمّا القسم الثاني فيركّز على فترة حكم بنيامين نتنياهو (ابتداء من حكومته الإسرائيلية الثانية المتشكلة عام 2009) للنظر في تبلور أواصر العلاقات ما بين اليمين الجديد في إسرائيل وما بين عقيدة الصهيونية الجديدة.

وهنا القسم الثاني والأخير منها، وقد نُشر القسم الأول يوم الفاتح من آب/ أغسطس الحالي:

 

عهد بنيامين نتنياهو: اليمين الجديد يعانق الصهيونية الجديدة

 إذا كانت طلائع تيّار الصهيونية الجديدة، بموجب المواصفات المذكورة سابقًا، قد ظهرت في ارتباط شبه فوري مع اتفاقية أوسلو، ومن ثم مع اغتيال يتسحاق رابين والانتفاضة الفلسطينية الثانية، فإن هذا التيّار أخذ مدًّا أوسع في عام 2007 وذلك في علاقة مباشرة مع حدثين سبقا ذلك العام: خطة الانفصال [فك الارتباط] عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربيّة (2005)، وما يعرف إسرائيليًا باسم "حرب لبنان الثانية" (2006). فقد اعتبر دافيد حزوني، رئيس تحرير مجلة "تخيلت" المحتجبة (وهي مجلة فصلية نشرها "مركز شاليم" لنشر الفكر المحافظ في القدس)، في كلمة افتتاحية بعنوان "زعامة بلا روح" ظهرت في العدد 29 الصادر في خريف 2007، أن هناك حاجة إلى "إيجاد جيل جديد من الزعماء اليهود المؤهلين لقيادة شعبهم في حياته السيادية الجديدة". وأضاف: "لا يشعر الإسرائيليون بالرضى عن زعمائهم. صحيح أنه لم تكن الحياة السياسية في الدولة اليهودية في أي وقت خالية من الشوائب ولكن يبدو أنها انحدرت في الأعوام الأخيرة إلى دركٍ غير مسبوق في إثر سلسلة من الفضائح والأزمات. ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى الانسحاب من قطاع غزة الذي اقتلع آلاف العائلات من بيوتها في منطقة غوش قطيف، وهو ما شجع أعداء إسرائيل في العديد من الجبهات، وكذلك إلى حرب لبنان الثانية التي ضاعت فيها أهداف جديرة في مهبّ الريح من جراء تقصيرات عسكرية ودبلوماسية، وإلى التحقيقات الجنائية التي فتحت ضد شخصيات كثيرة في قمة هرم الدولة ومن ضمنها رئيس الدولة، رئيس الحكومة، وزير المالية ووزير العدل وآخرون" (1).

ولم يكتف حزوني بالتشخيص بل انتقل منه إلى طرح رؤية الخروج من هذا الوضع الموصوف. وبعد أن تساءل: كيف ينبثق الزعماء الكبار؟ وكيف يُزرع في الأفراد الجمع بين سداد الرأي والجرأة والتشبث بالهدف، والذي لا بد من توفره في الشخص حتى يتمكن من القيادة؟ أجاب قائلًا: إذا كان المجتمع يرغب في تهيئة الأرضية لظهور زعماء حقيقيين فحسنًا يفعل إذا ما استثمر في مجال واحد بصورة خاصة، هو مجال التربية والتعليم، وخاصة في التعليم العالي. وقال: إن الزعامة تبدأ بمواطنين مُلمين بتاريخ شعبهم وأفكاره وقيمه، ويشعرون بالتزام عميق تجاه كل ذلك، وبغية بلورة أشخاص ذوي حكمة سياسية وثقافية يتعيّن على مدارس الأمة تسليح قادة المستقبل ليس فقط بالمهارات الضرورية للنشاط السياسي، وإنما أيضًا بمعرفة عميقة بالتاريخ والأدب والفلسفة ومواد أخرى تعرف باسم الآداب. وجزم حزوني بأن المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية وقعت بدرجة متزايدة تحت سيطرة محافل راديكالية تكرّس اتجاهات وميولًا ما بعد حداثية في مجالات مثل السوسيولوجيا والتاريخ والفلسفة وحتى دراسات اليهودية، مشيرًا إلى أنه بحسب ما تدعيه هذه المحافل فإن الشعب اليهودي لا يعدو كونه "مجموعة متخيلة"، وإطارًا مصطنعًا ليس له أي أساس حقيقي في التاريخ، وأن دولًا قومية من طراز إسرائيل ما هي إلا مجرّد شكل سياسي عفا عليه الزمن ويفضي بطبيعته إلى الأبارتهايد، وأن السعي لإقامة دولة يهودية كان في أساسه مشروعًا غير أخلاقي!

ولم يكن من قبيل المصادفة أن مقال دافيد حزوني هذا تزامن مع العام الذي تأسست فيه حركة "إم ترتسو" التي ألحقت باسمها شعار "الثورة الصهيونية الثانية" (تطالعون عن هذه الحركة بتوسع في فصول أخرى من هذا الكتاب). وهي تقصد الثورة التي تعيد إلى الصهيونية "بريقها الأخلاقي" وتعيد إلى إسرائيل "شرعيتها كدولة يهودية بالأساس، ومن ثم ديمقراطية". وأعربت هذه الحركة في بياناتها التأسيسية عن اعتقادها بأن إسرائيل تخلّت عن المعركة الأخلاقية حول صدقية قيامها وحول أخلاقية الحركة الصهيونية، وأن هناك تراجعًا حتى في صفوف اليهود في درجة إيمانهم بأخلاقية المشروع الصهيوني، وذلك بسبب الهجوم الأخلاقي العربي على الصهيونية ودولة إسرائيل وروايتها، وكذلك بسبب نشاط تيار ما بعد الصهيونية ولا سيما في المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية (2).

مناحيم بيغن خلال الاحتفال بفوزه في انتخابات عام 1977


يُعدّ مقال دافيد حزوني نموذجًا واحدًا من نماذج عديدة تشرح عقيدة تيار الصهيونية الجديدة، كما أوردناها في السطور السابقة، ولا يقل أهمية عن ذلك أن هذه النماذج ترى في شبه إجماع أنه على الرغم من انتشار الفكر المحافظ لهذا التيّار منذ سبعينيات القرن الفائت إلا إنه بقي هامشيًا لغاية بداية القرن الحادي والعشرين الحالي من حيث القوة والتأثير السياسي، ولم يبلغ مرحلة المأسسة والتغلغل في شرائح مجتمعية واسعة، وفي الوقت عينه تؤكد أنه من دون أن ينجح هذا التيّار في السيطرة على مراكز سياسية، وثقافية، وأكاديمية ومؤسسات غير حكومية، وكذلك على السلطة الثالثة- القضائية، والسلطة الرابعة- الصحافة والإعلام، أي من دون أن ينجح في السيطرة على مراكز التأثير وصناعة الرأي العام بشكل كاف، لن يتحوّل إلى خطاب سياسي فكري مهيمن، على غرار سيطرة حزب العمل والتيّار الذي يمثله على المشروع الصهيوني منذ بدايته ولغاية سبعينيات القرن العشرين المنصرم.

إن سبب تحديد سبعينيات القرن الفائت باعتبارها نقطة زمنية انتهت عندها سيطرة التيّار العمالي على المشروع الصهيوني، يعود بالأساس إلى نجاح حزب الليكود اليميني في تسلّم سدّة الحكم في إسرائيل عقب ما عُرف باسم "انقلاب 1977". ولعل ما ينبغي استعادته بشأن هذا "الانقلاب" هو أن معظم الذين يتبنون عقيدة الصهيونية الجديدة يعتقدون أنه على الرغم من مرور عقود كثيرة على تسلم حزب الليكود اليميني سدّة الحكم في إسرائيل في عام 1977، فإنه واصل حكم الدولة من خلال النُخب القديمة التي كانت في معظمها موالية للحركة الصهيونية العمالية بزعامة حزب "مباي" التاريخي. كما يؤكدون أنه فقط في فترة عهد بنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة الإسرائيلية منذ عام 2009 (استمر هذا العهد بشكل متواصل حتى عام 2021 واستؤنف في نهاية عام 2022) بدأ اليمين الإسرائيلي في تغيير هذه النُخب كي "يتحقق الانقلاب الحقيقي" في المستقبل المنظور.

في هذا الإطار يمكن الإحالة على وجه خاص إلى كتاب صدر في إسرائيل عام 2017 بعنوان "لماذا تصوّت لليمين وتحصل على اليسار؟" (الصهيوني طبعًا)، يتبنى مؤلفه إيرز تدمور، وهو أحد قادة ومؤسسي حركة "إم ترتسو"، هذا الطرح، ويشير إلى أن الحملة الشعواء التي يشنّها اليسار المتطرف، وفقًا لتعريفه، ضد الجيش الإسرائيلي والصهيونية والهوية اليهودية للدولة، وضد "أرض إسرائيل" والرموز القومية والقيم اليهودية، ما هي إلا المعركة الأخيرة لتلك النخبة اليسارية المنهارة. وهو يجزم بأن القوة الهائلة التي ما زالت هذه النخبة تحتفظ بها إنما تنبع فقط من انعدام بُعد النظر والتبصر والفهم السليم لدى رئيس الحكومة السابق والزعيم التاريخيّ لليكود، مناحيم بيغن، والكثير من مكملي طريقه في اليمين الإسرائيلي، طوال أكثر من ثلاثة عقود.

ويتهم الكاتب بيغن بأنه نأى بنفسه عن ممارسة الحكم، وفي ظل نأيه هذا قامت "نخب اليسار" بسحب صلاحيات سلطوية واسعة من السلطات المنتخبة ونقلها إلى هيئات معينة غير منتخبة. وعمل رجالات وموالو اليسار الذين أشغلوا وظائف ومراكز حساسة في جهاز الدولة - والذين أبقاهم بيغن في مناصبهم ظنًا منه أنهم سيساعدونه في تنفيذ سياسته - على إبقاء القوة والنفوذ في أيديهم، وراحوا يطوّرون أجهزة سيطرة خفية تُمكّن اليسار من مواصلة حكم الدولة بمعزل عن نتائج الحسم في صناديق الاقتراع للانتخابات التي تجري مرة كل أربعة أعوام.

ويضيف تدمور: إن المبدأ الرئيس يتمثل هنا في أن ثمة فرقًا كبيرًا بين أن تكون في السلطة وبين أن تتولى السلطة فعليًا، وهو نفس الفرق بين الثور الذي يقوم بحراثة التلم، وبين الفلاح الذي يمسك بلجام الثور. من وجهة نظر اليسار، فإنه لا توجد أي مشكلة مبدئية في أن يشغل عضو أو مؤيد لحزب الليكود منصب وزير المواصلات، أو وزير التربية والتعليم، أو وزير الثقافة، طالما كان يحرث كالثور في تلم الأجندة التي يرسمها اليسار.

في نفس العام الذي صدر فيه كتاب تدمور هذا، أجرى "معهد الاستراتيجيا الصهيونية" الإسرائيلي ما وصفه بأنه "استطلاع الصهيونية الأكبر". وقال 81.9 بالمئة من اليهود الإسرائيليين (أربعة من كل خمسة) إن "الصهيونية لم تنه مهمتها مع إقامة دولة إسرائيل"، فيما قال 18 بالمئة منهم إنها "أنهت مهمتها" (3).

تشكل "إم ترتسو" مصدرًا مهمًا من مصادر إعادة تعريف الصهيونية وفق العقيدة التي يتبناها تيّار الصهيونية الجديدة. وتستعمل الحركة منذ تأسيسها أدوات عديدة لفرض خطابها، وتركّز بشكل خاص على الجامعات من خلال لعب دور شرطة معرفة، ومراقبة المحاضرين بطريقة متبعة في الأنظمة التوتاليتارية التي تراقب حتى مضامين المساقات، وترفض ليس فقط الأبحاث والأدبيات النظرية الناقدة لأيديولوجياتها بشكل مباشر، وإنما ترفض تدريس الأدبيات التي تحمل قيمًا عالمية ليست لها علاقة مباشرة بأيديولوجيا النظم السلطوية. تعتبر الحركة مثلًا أن تدريس أدبيات عالمية مثل أدبيات العدل لجون رولز، وأدبيات نشوء القومية لبنديكت أندرسون وإرنست غالنر، وتوجهات لاصهيونية أو ما بعد صهيونية، لأن هذه الأدبيات تصطدم مع جوهر الصهيونية كما تراها "إم ترتسو". وتحاول الحركة رسم انطباع خطأ بأن الجامعات الإسرائيلية هي مؤسسات ما بعد صهيونية، وهذا في الحقيقة غير صحيح. وبرأي الباحث مهند مصطفى، إذا نظرنا إلى الجانب الآخر، غير الواعي، عند هذه الحركة فإن اعتبارها تدريس أدبيات عالمية مثل أدبيات جون رولز كتوجهات لاصهيونية يشكل ضربة أخلاقية للمشروع الصهيوني ويحقق بالنتيجة عكس ما تحاول "إم ترتسو" الوصول إليه، فنشاط الحركة يؤكد أن الصهيونية لا تتمتع بمفاهيم العدل والحريات الفردية بل تقدم مصلحة الدولة والمجموعة على مصلحة الفرد بالمفهوم الشمولي، وهذا المفهوم ليس مفهومًا حصريًا بحركة "إم ترتسو" بل هو التعريف الذي يحاول اليمين الإسرائيلي الجديد أن يمتلكه ويعرفه من جديد ويفرضه على المجتمع والفكر في إسرائيل بأدوات شتى، تُعدّ حركة "إم ترتسو" واحدة منها فقط. ولا ينبغي أن يُستنتج من هذا الادعاء أن مفهوم الصهيونية قبل هذه الحقبة كان ينسجم مع مفاهيم العدل والقيم العالمية، ولكن التيار المهيمن على الصهيونية لم يكن يرى ضررًا في التعاطي مع هذه الأدبيات، أو أنه لم يقحم نفسه في هذه الأسئلة الصعبة، وحاول أن يتعامل مع الواقع الفكري والسياسي الإسرائيلي والعالمي باعتيادية كبيرة (4).

اعتبر رئيس الدولة الإسرائيلية السابق رؤوفين ريفلين  المواطنين العرب في إسرائيل "أحد الأسباط الأربعة" التي تعيش في هذه البلاد، وهي السبط العلماني، والسبط الديني القومي، والسبط العربي، والسبط الحريدي 


إجمال: الصهيونية أولًا!

في كانون الثاني/ يناير 2015 قدّم رونين شوفال، الذي كان مرشحًا في قائمة حزب "البيت اليهودي" (أحد أحزاب الصهيونية الدينية) لانتخابات الكنيست في ذلك العام، والرئيس السابق لحركة "إم ترْتْسو"، طلب التماس إلى رئيس لجنة الانتخابات المركزية طالب فيه بأن تتوقف القائمة المشتركة لحزب العمل وحزب "هَتنوعا" (الحركة) بزعامة تسيبي ليفني عن استخدام اسم "المعسكر الصهيوني" لتحالفهما، وذلك لأنه بموجب تصريحات قسم من أعضاء القائمة "لا يدور الحديث حول معسكر صهيوني، إنما حول معسكرٍ معادٍ للصهيونية". وفي المجمل كانت هذه الخطوة واحدة ضمن سلسلة إجراءات حاول شوفال من خلالها المرّة تلو الأخرى أن يلصق بخصومه السياسيين صورة المُعادين للصهيونية، ليس فقط بهدف تلطيخ سمعتهم وإنما كي يصوّر نفسه وزملاءه بأنهم صهاينة حقيقيون وجيّدون.

ولاحقًا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، نشر مراسل صحيفة "مكور ريشون" اليمينية، يشاي فريدمان، أن "حزب ميرتس (الذي ينتمي إلى تيّار "اليسار الصهيوني") أسقط كلمة صهيوني من برنامجه، وفق ما أكدته مصادر رسمية في الحزب"! ونقل مراسل الصحيفة عن الناطقة بلسان ميرتس، ماي أوسي، قولها إنه "في ميرتس أعضاء صهيونيون وغير صهيونيين، ولذلك فهو لا يستطيع تعريف نفسه بأنه حزب صهيوني" (5).

وردًا على هذا النشر، أصدرت رئيسة ميرتس آنذاك، زهافا غالئون، بيانًا خاصًا رفضت فيه باشمئزاز "الادعاء بأن ميرتس أسقط الصهيونية من برنامجه". وأكدت ما يلي: "إن ميرتس حزب صهيوني، حزب إسرائيلي فيه أعضاء يهود وعرب، ولن يتخلى عن ذلك أبدًا". وأوضحت غالئون أن "ميرتس يؤكد في برنامجه على الدوام أنه يعمل بروح القيم الصهيونية. ولم يرد في برنامج ميرتس، من قبل، أنه حزب صهيوني، لأننا ـ ببساطة ـ لم نرَ أي حاجة إلى كتابة وتأكيد المفهوم ضمنًا. ميرتس هو أحد الأحزاب القليلة جدًا التي تنشر برنامجها الانتخابي قبل كل انتخابات، ولم يكن ثمة أي خلاف من قبل حول هويتنا الصهيونية".

وأضافت غالئون: "نحن نؤمن بأن دولة إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي وجميع مواطنيها. فقد ورد في ’وثيقة الاستقلال’ أن ’دولة إسرائيل تضمن المساواة الاجتماعية والسياسية لجميع مواطنيها، بغض النظر عن الدين، العرق أو الجنس’، وهي الجملة التي تجسّد مفهوم الصهيونية، كما نراه في ميرتس ـ التطلع إلى بناء مجتمع راق يحمي حقوق الإنسان ويدعم حق تقرير المصير للشعب اليهودي، كما حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في دولة خاصة به أيضا".

وقالت غالئون: "نحن لا نخضع لاختبارات الإخلاص التي تضعها صحيفة ’مكور ريشون’ والذين يقفون خلفها. نحن صهيونيون وطنيون ليس أقل من أي شخص آخر. إنها محاولة للطعن بشرعية اليسار" (6).

يشكّل هذان المثلان نموذجًا لما يسعى نحوه تيار الصهيونية الجديدة، ويقف في طليعة ذلك، مثلما أشير أعلاه، أن يصوّر هذا التيّار نفسه بأنه الممثل الأمين والجيّد للصهيونية. غير أن الهدف الأبعد هو استبعاد ما وصفته روت غابيزون، بحسب ما نوهنا في السطور السابقة، بأنه "مظاهر تعب من استمرار التمسك بهدف الصهيونية الأسمى، وهو إقامة دولة يهوديّة" تكون الصهيونية بمنزلة علّة وجودها الوحيدة وبنيتها التحتيّة الأبدية.

ومثل هذا الهدف هو ما سعت وتسعى إليه مجلة "هشيلواح" باعتبارها آخر منبر تيار الصهيونية الجديدة المحافظ، وقد بدأت بالصدور في خريف 2016، وترى رسالتها في تعزيز رؤيا يهودية/ إسرائيلية جديدة تقدّم أجوبة على التحديّات الثقافية والجيو- سياسية الراهنة الماثلة أمام المجتمع في إسرائيل. 

ولعلّه ليس بغير دلالة أن رئيس تحرير هذه المجلة، يوآف شورك، أنشأ في العدد الأول (تشرين الأول/ أكتوبر 2016) افتتاحية بعنوان "أن نتكلم صهيونية" تساجل فيها مع الخطاب الذي ألقاه رئيس الدولة الإسرائيلية السابق رؤوفين ريفلين في دورة عام 2015 من مؤتمر هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي، واعتبر في سياقه المواطنين العرب في إسرائيل "أحد الأسباط الأربعة" التي تعيش في هذه البلاد، وهي السبط العلماني، والسبط الديني القومي، والسبط العربي، والسبط الحريدي، مؤكدًا أن كل سبط منها يحمل وجهة نظر مختلفة تمامًا عن الأخرى بشأن النظام الاجتماعي والسياسي، فضلًا عن أن أعضاءها لا يلتقون في أي "تجربة مشتركة".

وقال ريفلين أيضًا إنه ليس ثمة في إسرائيل اليوم "سبط" واحد يشكل أغلبية واضحة في المجتمع الإسرائيلي، بل هناك سيرورة تتفاعل فيها "الأسباط" الأربعة المركزية معًا، وهي "أسباط" تختلف عن بعضها اختلافًا جذريًا وجوهريًا، لكنها تقترب من بعضها من حيث الحجم. ومن هنا، أضاف، فإن "بنية الملكية على المجتمع الإسرائيلي وعلى دولة إسرائيل آخذة بالتغير أمام أعيننا"! ذلك أن "هذه التحولات ستصمم، من جديد، هويتنا كـ "إسرائيليين" وستؤثر تأثيرًا عميقًا على طريقة فهمنا لأنفسنا ولبيتنا القومي".

يأخذ رئيس تحرير المجلة على ريفلين أنه لدى خلوصه إلى الاستنتاج المُشتهى من ضرورة تصميم الهوية الإسرائيلية التي من شأنها أن تحتوي الأسباط الأربعة، دعا إلى تأسيس ما وصفه بأنه "شراكة إسرائيلية" على قاعدة مركبات حيادية يقف في صلبها السعي لتحقيق حيّز مدنيّ مشترك من خلال الاحترام المتبادل، وبذا فإنه جعل الصهيونية التي قامت إسرائيل بدفع منها وكتجسيد لها، وبالرغم من كونه صهيونيًا حتى النخاع، خارج هذه المعادلة الجديدة.

كما يأخذ عليه قيامه بإخراج السبط الحريدي من المعسكر الصهيوني، مؤكدًا أن اليهود الحريديم (المتشددون دينيًا) يعتبرون "أرض إسرائيل أرض الشعب اليهودي"، كما أنهم صلّوا دائمًا من أجل "العودة إلى صهيون"، وهم يصلّون من أجل سلامة جنود الجيش الإسرائيلي ويؤيدون سياسة محاربة أعداء الصهيونية، وبناء على ذلك لا يجوز إلا اعتبارهم صهاينة قلبًا وقالبًا. وأخيرًا يأخذ عليه أنه يشمل بين الجهات الشريكة في صوغ "الإسرائيلية المشتركة" عناصر بعيدة عن التماهي مع الصهيونية بخلاف ريفلين نفسه، في إشارة واضحة إلى المواطنين العرب الذين أكد أنهم يتطلعون إلى وضع أسس جديدة للمجتمع المدني في إسرائيل، بمنأى عن الأسس الصهيونية.

ويصل الكاتب إلى خلاصة فحواها أن إسرائيل رضعت وجودها من الأيديولوجيا الصهيونية وستظل كذلك على نحو دائم وحيوي، وأنه لا يمكن القفز عن الصهيونية لا في واقع إسرائيل الحالي ولا في مستقبلها، حتى لو لم يُكثر الإسرائيليون الكلام عن الصهيونية (7).

لا بُدّ من التنويه أن كل هذا الجدل سبق سنّ قانون القومية الإسرائيلي في تموز/ يوليو 2018 والذي ليس مبالغة القول إنه يغلق الباب حتى على مبادرات مثل مبادرة ريفلين المذكورة التي ما كان مُقدّرًا أن يكتب لها النجاح قبل هذا القانون، فما بالك بعده.

(*) فصل من كتاب "اليمين الجديد في إسرائيل... مشروع الهيمنة الشاملة"، من إعداد وتحرير: د. هنيدة غانم. إصدار: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله 2023.

هوامش:

  1. دافيد حزوني، "زعامة بلا روح"، مجلة تخيلت، عدد 29 (خريف 2007).
  2. مهند مصطفى، حركة "إم ترتسو": حدود الحرية الأكاديمية وتعريف الصهيونية من جديد، قضايا إسرائيلية، عدد 46 (صيف 2012)، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار.
  3. استطلاع الصهيونية الأكبر: من هم السكان الذين يهددون إسرائيل وهل ما زالت الصهيونية ذات صلة، موقع ماكو، 26/6/2017. أنظر/ي الرابط: https://bit.ly/3K036S2
  4. مهند مصطفى، حركة "إم ترتسو". مصدر سابق.
  5. فريدمان يشاي، "رسميًا، ميرتس لم يعد حزبًا صهيونيًا"، مكور ريشون، 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2017. أنظر/ي الرابط التالي: https://bit.ly/3FFs1ra
  6. ليبوفيتش- دار، سارة، "يساريون بلا كرامة"، مجلة ليبرال، 9 كانون الأول/ ديسمبر، 2017. أنظر/ي الرابط التالي: https://bit.ly/42J37RJ
  7. يوآف شورك، "أن نتكلم صهيونية،" مجلة هشيلواح، العدد 1 (تشرين الأول/ أكتوبر 2016).

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.