}

عودة خاطفة إلى سلسلة هزائم "العقل الإسرائيلي"

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 2 يناير 2024

يتمثّل أحد محاور التعاطي مع الحرب الإسرائيلية العدوانية الحالية على قطاع غزة، التي تقترب من دخول شهرها الرابع، في إقرار البعض بهزيمة مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية من جراء الإخفاق الكبير في استشراف قدرات المقاومة الفلسطينية. وتتباهى إسرائيل عادةً بأن مؤسستها الاستخباراتية تعكس "فرادة" عقول نخبها، وبالتالي فإن فشلها يشفّ عن ختل العقل الإسرائيلي. وإذ نقول قدرات المقاومة الفلسطينية نقصد على وجه التحديد تلك التي جعلت "تنظيمًا مسلحًا يأتي في الدرجة الأخيرة بين أعداء إسرائيل من حيث القوة، يتحدّى أقوى دولة في منطقة الشرق الأوسط"، كما قال اللواء احتياط يعقوب عميدرور، مستشار الأمن القومي السابق لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في الأيام الأولى للحرب.

ويضيق المجال لاستعراض القرائن على هذا الإخفاق، لكن أهمها يتعلق بالفشل في قراءة سلوك حركة حماس والناجم عن تقديـر معظم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عشية الحرب بأن هذه الحركة مردوعة، ناهيك عن كونها تعاني من ضعف سياسي وعسكري.

وبموجب ما نُشر حتى الآن في وسائل الإعلام الإسرائيلية، أظهر بروتوكول اجتماع عقدته "لجنة رقابة الدولة" في الكنيست الإسرائيلي، في آذار/ مارس 2017، على سبيل المثال، أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وصف هجومًا تخطّط له حركة حماس من قطاع غزة، تبيّن في الوقت الحالي أنه كان بمثابة وصف دقيق لهجوم "طوفان الأقصى" الذي وقع يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ولكنه في الوقت عينه قال إن سياسات حكومته ردعت الحركة. ومما ورد في أقوال نتنياهو خلال الاجتماع الذي عقدته لجنة رقابة الدولة البرلمانية في ذلك الوقت لمناقشة تقرير صادر عن مراقب الدولة الإسرائيلية بشأن عملية "الجرف الصامد" العسكرية، التي شنّها الجيش الإسرائيلي ضد حركة حماس عام 2014: "إن حماس لديها خطة عملياتية لهجوم متعدّد المحاور، بما في ذلك إطلاق آلاف الصواريخ على المدن الإسرائيلية، وغارات كوماندوس بحرية، وطائرات شراعية معلقة، وتوغلات من عشرات الأنفاق، بعضها يقع في الأراضي الإسرائيلية". ولكنه ادّعى أن حماس مرتدعة، وأن أحد أسباب ردعها هو أن لديه سياسة صارمة حيالها، تقوم على أساس عدم الاستعداد لتحمُّل حتى "رذاذ العنف" واللجوء دائمًا إلى ردّة فعل قوية عادةً ما تكون سريعة جدًا على أي رذاذ من هذا القبيل.

وقبل 6 أيام من هجوم "طوفان الأقصى" قال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، في مقابلة إذاعية، إنه منذ عملية "حارس الأسوار" العسكرية في أيار/ مايو 2021، اتخذت قيادة حماس قرارًا بضبط النفس بشكل غير مسبوق. وبثقة مفرطة أقرّ بأنه منذ أكثر من عامين، لم تطلق حماس قذيفة واحدة من غزة. وأضاف: "إنها تكبح نفسها، وتعرف تداعيات أي استفزاز آخر. حماس مرتدعة جدًا لـ15 عامًا على الأقل. وهي لا تتجّه نحو التصعيد".

ولدى متابعة ما نُشر إلى الآن في المحور المتعلق بالاستخبارات لا مفر من ملاحظة أن معظم النقد كان حادًّا للغاية، لا سيما في ضوء واقع أن مؤسسة الاستخبارات نفسها ارتكبت في الأعوام الأخيرة إخفاقات عديدة في مجال استشراف الكثير من التطوّرات في الشرق الأوسط، ومنها مثلًا نتائج الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني في عام 2006، وإسقاط حكومة سعد الحريري في لبنان، ومخزون ترسانة الأسلحة لدى حزب الله عشية "حرب لبنان الثانية" في تموز/ يوليو 2006، والتظاهرات المدنية في إيران... والقائمة طويلة.

وسبق لهذه المؤسسة أن تعرّضت أكثر من مرة إلى مثل هذا النقد الحادّ. وكنتُ في مقام سابق تناولت ذلك النقد عندما بدأت تلوح أولى تباشير الثورات في العالم العربي وخصوصًا في مصر، في مقال حمل عنوان "هزيمة العقل الإسرائيلي". وأجد من المناسب أن أعود إلى ما كتبته مكرّرًا مقولة "ما أشبه الليلة بالبارحة".

قبل 6 أيام من هجوم "طوفان الأقصى" أقر رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي وبثقة مفرطة بأن حماس تكبح نفسها، وتعرف تداعيات أي استفزاز. وأكّد "حماس مرتدعة جدًا لـ15 عامًا على الأقل. وهي لا تتجه نحو التصعيد"!


ولقد أوردت من ضمن أمور أخرى أنه بغية تخفيف وطأة "الجلد الذاتي" عمد كبار المحللين العسكريين والاستراتيجيين إلى استعادة حقيقة أن احتمالات نجاح الاستخبارات في استشراف سلوك الجماهير الشعبية تبقى ضئيلة للغاية، فضلًا عن أن استخبارات دول أخرى أقوى نفوذًا من إسرائيل واجهت الإخفاق في هذا المجال، بل وفي مجالات محدّدة وقابلة للاستشراف أكثر، ولعل أشهرها- إذا ما نأينا بأنفسنا عن نظرية المؤامرة- كامن في "إخفاق الاستخبارات الأميركية في معرفة عدم امتلاك الرئيس العراقي السابق صدام حسين أسلحة دمار شامل". وفي هذا السياق فإن البعض استعاد، بقدر من السخرية السوداء، كيف أن وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، قال عندما سُئل في مؤتمر صحافي عن إخفاقات استخبارات بلده قبيل غزو العراق: "يبدو أننا لا نعرف أننا لا نعرف"!. مع ذلك فإن القضية في العمق لم تعد منحصرة في معادلة أن "إسرائيل لا تعرف أنها لا تعرف"، بقدر ما إنها تعبّر عن هزيمة مدويّة لـ "العقل الإسرائيلي" الذي كان ولا يزال أسير مفهوم متكلّس أجاد أحد المعلقين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين توصيفه حين قال: إن المشكلة ليست كامنة في رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") أو في رئيس هيئة الأركان العامة، وإنما هي مشكلتنا جميعًا حينما نسألهما. والمشكلة أيضًا- أضاف- هي أننا لا نزال، بعد كل أخطاء تنبؤهما وتنبؤ آخرين، نفكّر أنه في الأمور التي تتصل بإرادة الجمهور العريض وليس بالمعلومات التكتيكية، ثمة أحد يعرف أكثر من الجميع لا لشيء إلا لأنه يحمل درجات ورُتبًا عسكرية وفي مقدوره أن يتنصّت سرًّا، مؤكدًا أنه فقط الدولة التي تنظر إلى كل شيء عبر فوهة المدفع بمقدورها أن تجعل أفرادها العسكريين مسؤولين بصورة حصرية عن "تقدير المواقف الوطنية".  

ورأى آخرون أنه حان الوقت للتحرّر من التفكير القائل إنه إذا كانت لدى إسرائيل استخبارات جيدة، فإن في مقدورها أن تتغلب على كل المشكلات الخارجية والأمنية.

وكان أستاذ الإعلام الإسرائيلي، د. يورام بيري، قد أشار قبل أعوام كثيرة في سياق مماثل آخر إلى أن هذا التفكير يشكل قدمًا واحدة لمفهوم أعوج تحيا إسرائيل معه طوال أعوام كثيرة على الرغم من أنه يقلب لها ظهر المجن مرة تلو الأخرى، والقدم الثانية هي الاعتقاد بأنه إذا كانت لديها دعاية أفضل لكانت أصبحت ملكة العالم.

وأعاد البعض إلى الأذهان أن نظرة متبصرّة إلى أعوام وجود إسرائيل المنقضية من شأنها أن تبيّن بسهولة أن أكثر الأحداث أهمية في تاريخها، التي أثرّت كثيرًا في مسيرتها، لم يتم توقعها مسبقًا، لا من طرف شعبة الاستخبارات العسكرية ولا من طرف "أنبياء" آخرين.

وقد جرى ذكر الأحداث التالية على سبيل المثال (بطبيعة الحال ثمة أحداث أخرى وقد تكون أكثر دلالة، ولكن الأحداث المذكورة أدناه لم يُسلّط عليها الضوء كفاية):

- شكلت الهجرة الجماهيرية من دول شمال أفريقيا في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين الفائت الحدث الذي بلور، أكثر من أي شيء آخر، طابع المجتمع الإسرائيلي، فهي التي أوجدت الشرخ الطائفي وواجهت ما بين "الجنوبيين" الفقراء و"الشماليين" الأغنياء، وضفرت ما بين الأصل الطائفي والانتماء السياسي. وقد حدث هذا كله من دون أن يتوقعه أحد ومن دون القدرة على تنبؤ ذلك مسبقًا.

- لم يتوقع أحد أيضًا أن تنفجر حرب حزيران/ يونيو 1967. وفقط قلائل جدًا كان في إمكانهم تقدير التطوّرات الدراماتيكية التي ستجلبها على السياسة الإسرائيلية عامة. ولقد مضت أكثر من 55 سنة ولم يحل بعد "اليوم السابع" لهذه الحرب، التي ما زالت تبتز غالبية الموارد الروحية والمادية وتزيد تشوّه النفوس.

- في أواخر الثمانينيات لم يقدّر أحد أن الاتحاد السوفياتي سينهار، أو كيف ستؤثر تصفية "الحرب الباردة" في ميزان القوى في الشرق الأوسط، أو أنه خلال أقل من عشرة أعوام على هذا الانهيار سينضم إلى المجتمع الإسرائيلي أكثر من مليون ناطق باللغة الروسية، وأن "الثورة الثقافية" التي أحدثتها هذه الهجرة- والتي كان من ملامحها تصفية مفهوم "بوتقة الصهر" وتبلور تعددية ثقافية وسياسة هويات- ستغيّر الثقافة الإسرائيلية على نحو كبير.

ولم يفت بعض ثالث أن يشير إلى أن البشر وكذلك المجتمعات، ليسوا على استعداد للعيش في عدم يقين، لكن في إسرائيل ثمة سبب آخر للاعتقاد الساذج بأنه إذا ما جرى استثمار جهد أكبر فإنه بالإمكان توقّع التطورات فيما وراء الحدود بالضبط.

ووفقًا لما أكده يورام بيري في حينه، فإن هذا الأمر ناجم عن إيمان أعمى بأن ما يحول دون إنهاء الصراع الإقليمي "هو ليس نحن- ذلك بأننا نرغب في السلام- وإنما غياب شريك في الطرف الثاني. ولذا فإن ما يبقى علينا فعله هو أن نكون سلبيين ونكتفي بالإصغاء إلى الأصوات الصاعدة من هناك. إذا كانت هناك نيّة لمحاربتنا، فسنكون مستعدين لذلك. وإذا عبّر أحد ما، بمجيء اليوم الموعود، عن الرغبة في السلام فإننا نتحادث معه". وهو ما اعتبره بمثابة خداع ذاتي واضح، لأنه يتغاضى عن حقيقة أن وجود أو عدم وجود شريك في الطرف الثاني مثلًا هي، بقدر كبير جدًا، نتيجة لأفعال إسرائيل أيضًا، إذا لم يكن أساسًا.

ولقد تمثل استنتاجه آنذاك في ما يلي: "بدلًا من تنمية الوهم/ الخداع الذاتي بأنه ينبغي أن تكون لدينا استخبارات جيدة كي تتنبأ بما يحدث لدى جيراننا، فمن المفضل تبنّي سياسة جيدة من أجل أن تؤثر في ما يحدث هناك إزاءنا".

وهو من دون أدنى شك استنتاج صحيح بشأن الحالة الراهنة أيضًا والتي جاءت وقائعها بمنزلة إنبـاء مدوّ بأن إسرائيل لم تتعلم أي شيء بعد عشرات الأعوام من أخطائها السياسية، ومن استنكافها عن الإقرار أن في الشرق الأوسط أشياء يمكن أن تكون غابت عن عقل استخباراتها مثلما يمكن أن تغيب عنه أشياء أخرى في المستقبل أيضًا.  

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.